البوسنة والموصل من نافذة الحرب

البحث عن مشاريع سلام في مدن فرثت كبدها الحروب
والنزاعات المسلحة، تبدو للوهلة الأولى محاولة عبثية، هل يمكن لمجتمعات فرطت
بالسلام ان تعطيَ دروسا في التعايش، وهذا ما حدث معنا؟ نعم. انها افضل من يعطي هذه
الدروس اذا استوعبتها.

انا ومجموعة صحفيين من محافظة نينوى أُتيحت لنا فرصة زيارة البوسنة
والهرسك لمدة أسبوع واحد، للوقوف على تجربة دولة وشعب ومدينة، بعد الحرب.

ما أعرفه عن البوسنة والهرسك انها ساحة
حرب ومجازر وإبادات وانتهاكات ضد النساء … ومصدر هذه المعرفة نابع عن الأناشيد
الدينية التي روَّجت في الموصل والخطب والمحاضرات التي يلقيها في جوامع المدينة
الخطباء والدعاة الدينيين بأصوات متشنجة، بُحَّتْ وهي تنادي لنصرة المسلمين
البوسنيين ونسائهم وأطفالهم.

هبطت الطائرة بنا في مطار صغير على اطراف
العاصمة سراييفو، الليل يخمّر كل شيء، حتى ملامح السائق الذي أقلنا الى الفندق لم
تكون واضحة، عندما علم بأننا قادمون من العراق أطلق العنان للسانه وبدأ يتحدث عن
ذكريات الحرب، ربما وجد من يواسيه أو يفهم ما يقول، فأبناء الحروب متشابهون.

“هنا دارت معارك طاحنة، وهناك مجزرة،
وذاك الحد الفاصل بين الفريقين المتقاتلين”، أشار باصبعه من وراء نافذة
سيارته الى إحدى البنايات، “انظروا ما زالت آثار المعارك تطرز بعض
الجدران”، ونحن الناجون من بين فكي الحرب في الموصل نستفز ذاكرته بالأسئلة.

أخيرا قال عندما أنزلنا آخر حقيبة من
سيارته: أتمنى ان تقظوا وقتا جميلا هنا، فالحرب انتهت كما ترون.

جرّني الفضول من الفندق (هوليدي) الذي كان
مركزا للقناصة أثناء الحرب البوسنية (1992-1995)، ربما نافذة الغرفة التي أقيم
فيها تسببت بمقتل كذا شخص، نزلتُ لأرى هذه المدينة التي لوّعتها البنادق والحِراب.

العاشرة مساءً بتوقيت سراييفو، تلفتتُ
يمينا وشمالا، مشيت ببطء نحو مركز المدينة، الهدوء يخيم على الحياة في هذه الساعة،
استوقفتني كنيسة وجامع وبار وحديقة يتبادل فيها العاشقين القبل والى جانبهم شلة
موسيقيين يعزفون ويصفقون، بالنسبة لي هذه إشارات واضحة لحياة تسير بسلام.

صورة البوسنة والهرسك
“المأساوية” التي تعلق في ذهني أخذت تتبدد، المدينة التي نقيم فيها
جميلة، شدني التنوع العميق فيها، لذا كنت أعقد المقارنات بينها وبين مدينتي
الموصل، ثمة تنوع جميل، منائر وصلبان متجاورة من مئات السنين، لكن في مواسم
النزاعات الداخلية الدينية تتحول الى فوهات مدافع.

التزاحم بين الأقواس (أشارة عمرانية
اسلامية شرقية) والمثلثات (إشارة مسيحية اوروبية) واضح جدا في سراييفو، أما في
الموصل فالأقواس أخذت حيزا واسعا ولا مجال لتفسير ذلك بالتفصيل، لكن يكفي القول ان
السلطة الاسلامية فيها منذ اكثر من 1400 سنة ضيّقت الخناق على التنوع الديني (خاصة
المسيحي بأعتباره متجذر فيها).

ما راء هذه المشاهدات الطافية على السطح،
تتواري الكثير من براميل البارود، الذكريات المشحونة بصور القتل والإعتداء والإنتهاكات،
والشعور بالظلم بسبب غياب العدالة الانتقالية، وحالة عدم الأطمئنان الى المستقبل.
تبدو هذه ايضا مشتركات في المدن الناجية من الحروب.

في البوسنة والهرسك الشعور بالظلم وغياب
العدالة الانتقالية واضح، “الكثير من أمراء الحروب استبدلوا البنادق بأغصان
الزيتون، بل أصبحوا شركاء في الحكم”! هل يستقيم الأمر هكذا ؟

وفي الموصل أيضا، ثمة شعور بغياب العدالة
الانتقالية أيضا، المدينة دُمرت على نحو مخيف، آلاف المدنيين قتلوا على ايدي تنظيم
“داعش” وخلال العمليات العسكرية التي استمرت من تشرين الاول/اكتوبر2016  الى تموز/يوليو 2017. وخص “داعش” المكونات الدينية (الايزيديون
والمسيحيون والشبك والتركمان الشيعة) بانتهاكات مبكرة، قتل وخطف نساء (الايزيديات)
والاستيلاء على الممتلكات وتهجير قسري.

حتى الآن لا توجد خطط او نوايا جادة من
الحكومة العراقية أو المجتمع الدولي لتحقيق العدالة الانتقالية عبر التعويض المادي
والمعنوي واعادة تأهيل البنيان والانسان، ما زالت الكثير من المناطق بحاجة الى فرض
الامن والاستقرار في جنوب وغرب الموصل، وتبني مشاريع تنفخ الروح في التعايش السلمي
بين المكونات، لا سيما في سنجار وتلعفر وسهل نينوى.

الجراح الثخينة التي خلفتها الحرب
والنزاعات في البوسنة لم تلتئم جيدا بالرغم من مرور17 عاما، النساء اللائي
اغتصبن اصبحن جدات لكن خيار التعايش رغم الجراح ما يزال قائما !

وهنا
في الموصل ما زالت الجراح تنزف، وثورة الغضب عارمة وإن كانت مخاطر الانتقام والعنف
قد تراجعت. ولطي صفحة مظلمة في حياة هذه المدينة يجب ان يتم الافادة من تجارب
التعايش في مدن اصيبت ببلاء النزاعات والحروب.

أفضل الشعوب إستعدادا لفكرة التعايش تلك
التي عاشت دوامة النزاعات الداخلية، نحتاج الى استعادة بناء التعايش بعدما طوّح به
الارهاب والتطرف الديني والقومي بعيدا، واذا ما اعدناه يجب ان نعض عليه بالنواجذ.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى