جاسم دولفين في برلين!

(فعس) وجهي بكفيه الضخمتين ثم شفط جبيني بقبلة جفل من فرقعتها حشد كان حولنا من منتظري القطار الذاهب صوب الكساندر بلاتزا وسط برلين. قال لي بلكنة موصلية: ” تصدق أنت أبن حلال”، فرددت بخجل : “نعم أصدق هذا” فعاد ليهجم علي بضمة حزقني بها لنحو دقيقة ردد خلالها ولمرتين” الله, أشم فيك ريح الموصل”.
عبثاُ حاولت التخلص من الورطة التي أوقعني بها حظي العاثر، فقبلها بثوان قليلة كنت أفكر بجلسة تأمل طويلة أقضيها جامداً كأي شجرة في إحدى متنزهات المدينة أو أزور جزيرة المتاحف لمشاهدة ما تبقى من آثارنا المحفوظة فيها. كما أنني لا أعرف أسمه، لا أتذكره أصلاً. والحقيقة أنني لم أشم فيه سوى رائحة البيره.
حركت رأسي لأتذرع بشيء ما، لكنه أمسك خيط الحديث وراح يتذكر كل معارفه في الموصل الأحياء منهم والأموات وبعد أربعة قطارات متتالية مرت دون أن نركبها، انتقل الى قصة هجرته عبر بحر ايجة وكيف أنه نجا من الغرق لأنه لا يعرف السباحة وطريقته الشيطانية في التملص من البصمة وجنود بلغاريا الغاضبين بالركض عشرة كليومترات متتالية. وراح يدعو لرئيسة وزراء المانيا ميركل بالستر والعافية. وعند الجملة الأخيرة والطريقة التي تشظى بها اللعاب من فمه المفتوح على وسعه، تذكرته. أسمه جاسم دولفين سائق سيارة أجرة كان قد أوصلني ذات مرة من بغداد الى الموصل واضطررت لتحمل مصيبة الجلوس الى جواره نصف يوم ونحن ننتظر بصبر مذل أمام سيطرة العقرب المغلقة لأسباب أمنية جنوب الموصل.
فرشت ابتسامةً على نصف وجهي، فسرها جاسم دولفين بنحو ودي فارتفعت درجة حرارة انفعاله. ضرب الأرض برجله اليمنى ووجه سبابته نحو صدري صارخاً وكرشه يهتز:” نحن قوم متقوقعون على أنفسنا، سلبيون الى أقصى الدرجات، وإلا لماذا مدينتنا صارت عاصمة لخلافة داعش “، لم أستغرب الحصافة التي طرأت على فكر دولفين وخمنت بأنها خبرة الاحتكاك بآلاف(النفرات)الذين طار بهم لسنوات طوال على الخط بين الموصل وبغداد، لكن سرعان ما عرقل بانتقالته الى الجملة التالية خطوتي الأولى في الطريق نحو احترامه: ” صرنا ياهو اللي يجي يركب عبالك باص دك النجف”!.
كانت سبابته مازالت موجه نحوي ولو أقسمت برؤوس كل الأولياء والسادة الألمان لمن حولي بأنني لم أكن( أترزل)وقتها ما صدقني أحد. لحقني الى داخل القطار بصوته الذي يشبه انهيارا صخريا، جلسنا متقابلين وواصل حديثه:” لا يريد جماعتنا الجيش ولا الشرطة ولا البيشمركة ولا الحشد الشعبي أو الوطني ولا الأمريكان ولا إيران أو تركيا”، صمت لحظات وسط ذهول الركاب الذين تمطت رقابهم نحونا، وتابع : ” وفي نفس الوقت يريدون رواتب وكهرباء وحياةً عادية مع وجود كلاب داعش مسيطرين على المدينة”، سألني بعد ان فرش كفيه بيننا ورفع حاجبيه على شكل قوسين : ” بربك ما تفسيرك لكل هذا ؟” لم ينتظر إجابة مني أرتفع صوته أكثر وصار يوزع نظراته بين الركاب وكأنه يتحدث الى جمهور من باب لكش أو المجموعة وليس الى مواطنين من برلين لا يفرق معظمهم بين العراق وإيران : ” الحكومة كفرت عندما قطعت الرواتب عن موظفي الموصل، ثمانية أشهر والناس تشتم وتسب الصفويين في بغداد ولو وجهوا ربع ذلك الجهد نحو داعش كانت الموصل محررة الآن”.
باغته بخبث ما قبل المهجر متسائلاً: ” لماذا تركت الموصل، كان عليك أن تنصح الناس هناك لتغيير أفكارهم ” فرد بسرعة أنه كان هدفاً أكيدا لداعش بسبب علاقاته الواسعة مع ضباط ومنتسبي الجيش والشرطة، كما أن جميع السائقين على خط الموصل بغداد يعرفون بأنه شرب ذات ليلة زجاجة ويسكي كاملة في جلسة ليلية مع قائد عمليات نينوى اللواء الركن مهدي الغراوي. فجأة وكأنه اكتشف بأنني أسخر منه، رد علي بسؤال: “ولم لا تذهب لتقاتل أنت وتدافع عن الموصل ماذا تفعل في ألمانيا”، حاولت أن أشرح له بأن الأمر ليس كالمثال الذي يتحدث فيه اثنان عن لقاء والدتيهما في أحد الملاهي الليلية. وأنني لم أكن بحاجة لكي اسكر مع احد لكي أًعتبر هدفاً، فالدواعش يستهدفون أي شخص يخالف فكر الدين المتشدد الذي اخترعوه ويذبحونه بكل برود وإجرام.
دار القطار بنا برلين بأسرها. أخذني الشرود بعيداً، اقلب في رأسي توقعات مستقبل نينوى، فصلاً ، أقلمة، وضعاً خاصاً، ولم يسعفني حتى الخيال في رؤيتها كما كانت قبل وصول الغزاة وهم يتقمصون دور ثورة العشائر التي طبل وزمر لها مراهقو سياسة فعلوا فعلتهم ثم فروا على خطى أصحاب الدشاديش. محطة بعد أخرى، كان صوت جاسم دولفين يظهر ويختفي. وفي لحظة ما اكتشفت أنه لم يعد موجوداً وأنني قد مددت تذكرتي للجابي الألماني الذي قرر وبكل برود ان يوقع علي غرامة مقدارها 60 يورو لكوني ارتكبت جريمة استخدامي تذكرة القطار لأكثر من ساعتين اللتين يسمح بهما قانون النقل العام وطبق بحذافيره برأسي .