Site icon المنصة

المدرسة بوصفها حديقة جامع وهوشة عشاير

“الغناء حرام”، هذا رأي معلم في أحدى مدارس الموصل نشره على فيسبوك، فسألته: من متى؟
– من زمن أبي هريرة (المتوفي في 678 م).
وإذا سألك أحد تلاميذك عن الغناء؟
– “حرام طبعا”.
النقاش تشعب كثيرا، لكنني سأتوقف هنا. القول بتحريم الغناء من شاب ثلاثيني ليس متدينا متعصبا كما أنه رافض لفكر داعش وقد فر من المدينة خلال فترة سيطرته عليها، ليس مجرد رأي بل ظاهرة مخيفة تشبه مرض هشاشه العظام، القاتل الصامت، في جسد المجتمع الذي بالكاد خرج بعد داعش بخسائر فادحة مادية ونفسية .

إنها يا سادة موجة فكرية مغلفة بالتدين تجتاح الوسط التعليمي والتدريسي في محافظة نينوى، وتعود جذورها الى “الحملة الإيمانية” التي طبقها النظام السابق في تسعينيات القرن الماضي لأسلمة المجتمع العراقي، وكانت الصفوف الدراسية الملعب المناسب لها.

سوق عكاظ في الموصل
وأخذت الموجة الفكرية الدينية منحى أكثر تشددا بعد عام 2003، عندما تحولت الموصل الى سوق عكاظ للتيارات الدينية، فالفراغ الكبير الذي خلفه غياب سلطة الدولة إثر سقوط نظام صدام حسين، ملأه الملالي، بالتالي جرفت موجة التدين الغالبية العظمى من المجتمع – بمن فيهم كاتب هذه السطور – ومن يجيد السباحة نجا قبل أن يتحول الى قاتل باسم الرب أو حارس معبد، وما أكثرهم.

فراغ سلطة الدولة كان – وما زال – واضحا جدا في المؤسسة التعليمية ابتداءً من المراحل الأولى في الدراسة وصولا الى الجامعة، وهذا الفراغ أيضا شغله التدين، حتى صرنا نتلقى الدين في البيت والجامع (صلاة الجمعة والدورات الصيفية) والمدرسة والكلية!

المشكلة أن وزارة التربية خضعت لسيطرة تيار ديني منظم، وكثير من الوظائف التعليمية ذهبت لأعضاء في التيار أو مناصرين له، بالتالي إن البضاعة الدينية رائجة في صفوف الدراسة، وتقدم الوظيفة مكافأة للإنتماء والمناصرة خاصة في مواسم الإنتخابات.

الآن وأنا أضع أمامي هذه الفرشة، أجد موقف صديقي معلم التربية الرياضية من الغناء والموسيقى أمرا طبيعيا، فهناك من لديه آراء أشد تطرفا، وأستطيع تخيل وجود معلمين ومدرسين مناصرين لداعش حتى الآن في مدارس محافظة نينوى، أو مؤيدين لفكرة قيام دولة إسلامية، كما أستطيع تخيل المعلم السلفي وهو يلقن الدين للأطفال ويشحنهم بالتطرف والتشدد والكره لكل مختلف عقائدي.

والمتدين “الوسطي”، يفرغ هو الآخر أفكاره المنحازة في رؤوس التلاميذ الصغار معتقدا أن الله سيبارك عمله هذا، وأقصد بالمنحازة، أن يثقف لمشروعه ويبشر بالأفكار التي يؤمن بها.

وسأثير هنا سؤالا محددا، هل يحق لمدرس ينتمي الى الحزب الفلاني أو التيار الفلاني أن يستغل وظيفته لكسب الطلاب لحزبه أو تياره علمانيا كان أو دينيا؟

“هوشة عشاير”

وإضافة الى مزاريب الحملات الإيمانية التي أغرقت صفوف الدراسة، هناك مزاريب القبلية التي تؤثر سلبا على التعليم، وليس لدي أدنى شك أن أخطر تحالف على الحياة المدنية، هو تحالف الدين والقبيلة، ففي الوقت نفسه الذي نفذ فيه النظام السابق حملته الإيمانية، عمل أيضا على تقوية العشيرة عندما صنف شيوخ العشائر الى درجات وقوّى سلطتهم وفرض على الجميع أن يذيلوا أسماءهم بألقاب عشائرية!

هكذا حاول النظام السابق الذي خرج من حرب الخليج الثانية على عكاز، أن يتكئ على قوى محلية كالعشيرة والطرق الصوفية والإستقواء بالدين.

والنتيجة أن عباءة العشيرة إنسحبت الى المدن على نحو لم يحدث ربما منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة عام 1921، وقد ترسخ ذلك أكثر أفقيا وعموديا بعد عام 2003.

أتذكر أن والد أحد الطلاب جاء الى مدير المدرسة يريده أن ينقل ابنه لكي يكون مع أبناء عموته في الشعبة نفسها. فرد عليه المدير: “هذه مدرسة مو هوشة عشاير”.

أي نعم هناك “هوشة عشاير” في مدارسنا، وهذا الأمر مستفحل جدا في المناطق الريفية، وهذه كارثة حقيقية، ولا تقع اللائمة على المعلم فقط، بل على ذوي الطلبة أيضا.

إذن حتى نحصل على جيل متعلم وواعٍٍ وغير متطرف لا بد من تحييد الصفوف الدراسية عن تأثير الحملات التبشيرية للتيارات الدينية والسياسية، ويؤسفني القول أن هذا التحييد غير وارد حاليا، لأن مدارسنا خضعت لهذا التأثير منذ وقت مبكر، شيوعيون وقوميون وبعثيون وإخوان مسلمون وجماعات دينية متطرفة/مسلحة، حتى جن جنون داعش عندما وضع مناهج انتحارية للتلاميذ والطلاب، ولو تمكنوا من تدريسها لكانت كارثتنا (ثري دي).

وأختم بتساؤل لطاما أثار قلقي وأوجهه لكل مدرس أو معلم، هل تقرأ كتبا خارج منهاج الدراسة؟

أقدر نسبة الـ نعم بأقل من 5 %.

كما أنني مؤمن بأن المعلم أو المدرس الذي يحرّم الموسيقى والفن والغناء لا يصلح لهذه المهنة العظيمة، إطلاقا.

ويا لها من عويصة.

Exit mobile version