Site icon المنصة

تجارب شخصية: رجل وأربع بنات في الموصل

بقلم صالح الياس

خنقتني عبرةٌ، لأن المولود جاء أنثى وليس ذكراً. والدتي التي تتلوى من آلام الولادة كانت تواسيني بنظراتها ويبدو عليها الخجل لأنها لم تنجب لي شقيقاً إضافياً، ليكون سنداً وعوناً. هذه نتيجة النشأة في رحم مجتمع ذكوري بامتياز، يعشش في رأسه فكرة تفوّق الذكر في جميع المجالات باستثناء ربابة البيت والإنجاب!

بين لحظة خجل والدتي التي انهكها الإنجاب بعدما ولدت احد عشر فردا، ثلاثة منهم ذكور، وبين اليوم مسافة زمنية طويلة أمدها عشرون عاما، تزوجتُ وأنا الآن أبٌ لأربع بنات، فهل تغيّر شيءٌ، حزنت؟ هل شعرتْ زوجتي بالخجل أيضا؟

تمنيت أن يجيءَ المولود البكر ذَكَرَا ليصير (حزام ظهري) وينادوني أبو فلان، لكنها جاءت أنثى سمراء أسميتها سارة فصرت أبو فلانة. أتذكر التفاصيل جيدا، فَجْرَ يوم 2-1-2009 خَرَجتْ والدتي لتبشرني بها بعد ولادة عسيرة: “ما شاء الله مثل الكمر”. قالت الكلمات بنبرةِ مواساة، وهي تدري أن السونار سبق وأن قال قولته.

راودتني مشاعر متناقضة وفضول كبير لرؤية ذلك الوجه، الأكيد لم تخنقني العبرة، لقد تبسمت عندما رأيتها وشممت رائحتها، ومن هنا بدأت قصتي مع البنات، فجاءت سلاف وفاطمة وتولين!

ولا أنكر أن ضغط المحيط الإجتماعي كان يدفعني وزوجتي لإنجاب ذكر، الجدان والجدتان ينتظرون “ولي العهد” فأنجبنا ثلاث بنات، بإستثناء تولين التي قفزت على كل مانع، بعدما أعلنا وقف الإنتاج.

مجنون من يتوقف عن الإنجاب وليس لديه إبن، سوف تنقطع سلالته، ولن يحمل اسمه أحد بعد وفاته، إضافة الى فكرة (حزام الظهر) والنظرة الى الأنثى محفوفة بمخاوف العيب والعار، كل ذلك يولف فوبيا لدى الآباء في البيئات قليلة الوعي. والمحظوظ من يتحرر من هذا الضغط الاجتماعي، الأمر يحتاج الى إيمان وشجاعة على المواجهة.

تغيرت أنا، فبناتي يمنحني قوة عظيمة، وشعورا دافئا وحنانا عظيما، يهتمن بالتفاصيل، قصاصة ورق أجدها ملصقة على المرآة، فيها (توبيخ) بسبب كثرة سفري أو قائمة طلبات أو مشاعر اشتياق ومحبة. والامتياز الذي لا أتنازل عنه، قبلات الوداع التي يمطرنني بها كلما هممت الخروج من المنزل، وصار ذلك طقسا عائليا، وكلما عدت يهرعن ويحضنني، لا أستطيع وصف كمية الرومانسية والدفء الذي يتنزّل عليّ من أجنحة هذه الفراشات.

باختصار شديد أن حياتي صارت “بمبي”، وأصبحتُ أقل قسوة وأكثر حنانا وترويضا لحالة الغضب والتهور، وأشد انجذابا الى البنات وتعاطفا معهن، على عكس عما كنت عليه من قبل!

لكن هل تغيّرت البيئة؟

كلا، حتى الآن أسمع عبارات شفقة، مثل: “خطية عندو أربع بنات”! بينما أنا أشفق على من يفكر بهذه العقلية المتخلفة مهما كان مستوى تعليمه، الرقي الحقيقي يكمن في الفكر والسلوك.

لا أشجع هنا على إنجاب البنات ونبذ الذكور ولا العكس، فهذه خيارات للزوجين يجب أن لا يتدخل أحد فيها، لكن التحدي هو تجاوز هاجس الشعور بالنقص لعدم إنجاب ذكر. فأولى مساعي تمكين المرأة والتوازن الجندري في المجتمع تبدأ من هذه النقطة.

 

Exit mobile version