Site icon المنصة

سنة اولى لجوء

افراح شوقي

مازال وقع اصوات خطواتي واولادي في ذلك الطريق الموحش ترن بأذني حتى هذه اللحظة،  تفاصيل المكان حفرت في الذاكرة كالوشم ، الطريق الذي قسم حياتي نصفين وبدأ معه مشوار حياة لم اخطط لها، كان الليل قد دخل تواً واعمدة النور تبدو عالية والهدوء يخيم على المكان فيما الضجيج والرهبة يتضاعفان في رأسي  وانا افتعل الهدوء والطمأنينة امام أولادي.

دخلت مبنى الاستقبال الاولي لطالبي اللجوء في فرنسا وقدمت لهم اوراقي الثبوتية التي تسلمها الموظف المختص واعداً بدراستها صباح اليوم التالي ومنحنا غرفة بسيطة للمبيت.

نام الاولاد  بسرعة بعدما هدهم مشوار يوم كامل  من السفر، فيما تلقفتني الهواجس والاسئلة  اين انا؟ وكيف وصلت هنا؟ هل صحيح اني اطلب اللجوء؟ قضيت اقسى ليلة بحياتي، كنت اقرر مع نفسي بكل لحظة التراجع والصراخ بمن حولي (اريد وطني … اريد العودة) لكن لساني كان مثل سيف مثلوم لا يقوى على القتال، ووجوه اولادي امامي تلح علي  بوطن آمن.

الايام الاولى في فرنسا كانت اصعب بكثير مما سمعته، إذ تبدأ الصعوبات بالتعرف على المكان  وتأمين السكن والتسجيل في المدارس ومنح الاوراق الرسمية للإقامة وعادة ما تأخذ وقتا طويلا ومملاً لكن الاصعب هو تعلم اللغة، والتفاهم مع الاخرين  وتمشية الحياة مع اناس جدد لا يعرفون عنك سوى انك لاجئ، اكثر من مرة تخيلت نفسي في مهمة صحفية لاستكشاف حياة اللاجئين وكان ذلك الهاجس يخفف وحدتي وغربتي، كنت اسجل بعض الملاحظات واستطعت الاندماج مع عائلات معظمها سورية وصرت أدون تفاصيل رحلاتهم  الشاقة من وطنهم وشتاتهم في دول العالم بعد سنوات الاقتتال التي عانوا منها في بلدهم.

قصص اللاجئين تحكي فصولاً من تجارب صعبة وأوطان لم تمنح مواطنيها إلا الخيبات والخسارات، عائلات كثيرة  تحاول لمَ شتاتها  ولا تملك حتى الوقت لبكاء من خسرتهم في الحرب! شباب بعمر الورد يودعون احلامهم و يختارون الاغتراب والمجازفة في السفر طمعاً بمستقبل يضمن لهم حياة افضل مما هم عليه، كل تلك الصور الصعبة منحتني صبرا للمضي إلى المشوار.

انشغلت في البداية بتأمين حياة مناسبة للأولاد ومساعدتهم للاندماج والتأقلم والدراسة، لم تكن المهمة يسيرة، خاصة وهم يرتبطون بعلاقات قوية مع اصدقائهم، ونجحت في دفعهم لتجاوز محنة الغربة ومشكلات الاغتراب النفسية،  وانشغلت  معهم  بتعلم اللغة الفرنسية، كنت احضر دروساً متفاوتة في الوقت بحسب منهاجهم، لكنها مكنتني من تدبر الخطوات الاولى للتعامل اليومي بشكل مناسب لا سيما وأنني المسؤولة عن ادارة ملف عائلتي وحدي، استطعت التواصل مع منظمات فرنسية معنية بالصحفيين وحصلت على وعود للعمل شرط التمكن من اللغة الفرنسية والحال ذاته مع المنظمات المعنية بحرية الصحافة وحق التعبير، لأجل نقل صور ما يحصل في العراق من انتهاكات، حصلت على دعوة من احدى المراكز البحثية المهمة في باريس (جامعة كوليج دو فرانس) وهي من اعرق الجامعات الفرنسية ومقرها باريس  للتعاون معهم في مؤتمر ( الدول العربية من العنف الى السلم ) قدمت فيها بحثاً  تناول “الاعلام العراقي ودوره في نشر خطابات الكراهية” والذي ترجم إلى اللغة الفرنسية وحضره مختصون واكاديميون فرنسيون وعرب.

كنت احاول دوماً ان  يكون وجودي خارج بلادي دافعاً أقوى للتعبير عنها، واركز على فكرة ان الاوطان لا تعني مساحات جغرافية نعيش فيها بقدر ماهي عقيدة مترسخة في الذهن وعمل مضاعف لخدمته ورفع الحيف الذي اصابه، خرجت من تجربة غربتي الصعبة  بحصيلة هامة من الافكار لمستقبل اكثر ايجابية يشي بالكتابة والتواصل والنشر ومساندة الحملات المدنية  الانسانية والخلاقة.

بعيدة بلغة الأميال والمسافات فعلاً، لكن عزيمة العمل والتواصل والنجاح وتحقيق مشاريع قادمة  تمنحاني املاً اكبر للعودة قريباً الى احضان الوطن.

 

Exit mobile version