أبناء نينوى … هل تعلموا الدرس!

سامان نوح

تخبرنا تجارب الشعوب التي مرت بمراحل عنف وصراع داخلي مسلح وتمكنت من تجاوزها وبدء حياة جديدة، ان الخروج من نفق الحرب والعنف الأهلي على نحوٍ كامل او شبه كامل يتطلب تغيير نمطية التفكير السائدة في المجتمع وايمانا بأن التعصب والتطرف بكل أشكاله ورفض الآخر لا تحقق مجتمعا متطورا متجانسا قادرا على تحقيق تنمية شاملة.

تلك التجارب تؤكد ان محاولة اخضاع شريحة مجتمعية من خلال القوة، وان تبني فكر او رؤية متعصبة متشددة واللجوء للصراع الدموي لتحقيق المطالب او الأهداف، يهدد باشعال دورات عنف جديدة ولن يحقق الأمن والسلم المجتمعي، وانه لا سبيل غير الانفتاح وقبول الآخر والحوار العقلاني والعمل المشترك بين جميع الشرائح والأطراف بما فيها التي ارتكبت اخطاء ولدت العنف.

ولتجاوز سنوات الكراهية والانغلاق والعنف الدامية، لا بد من تبني برامج تسامح وتصالح والشروع في برامج تأهيل اجتماعي ترافقها برامج تنمية اقتصادية شاملة، وهذا ما حصل في رواندا مثلا التي أوقعت المجازر التي حصلت بين المكونين الرئيسيين فيها (قبيلتا الهوتو  والتوتسي) ما بين 800 الف الى مليون قتيل قبل ان يركنا الى التصالح والتسامح والعمل المشترك الباعث على التنمية.

السؤال الأساسي الآن، هل أيقن اهالي الموصل خصوصا ومحافظة نينوى عموما انهم اخطأوا في متبنياتهم الفكرية ورؤيتهم وتعاطيهم مع الأحداث الوقائع وأخطأوا في سلوكياتهم، وان عليهم تعديل مسار حياتهم بتغيير نمطية التفكير السائدة لكي يتحقق التغيير في المحافظة المهددة بفقدان كل مكوناتها غير المسلمة وبالتالي جزء من عوامل ومحركات قوتها، كما هي مهددة بمزيد من التناحر الاجتماعي والصراعات المدمرة بل وحتى العنف داخل المكون الواحد، الى جانب الفشل في الاعمار والتنمية وتطوير الاقتصاد.

هل هناك مراجعة نقدية عقلانية وبفكر حر وبعيدا عن النظرة المتعالية الفوقية للذات والدونية للآخر، لأسباب الكوراث المتلاحقة التي تحل بنينوى منذ عقد ونصف وهي المحافظة التي تحمل كل مقومات التطور والنهوض وتملك تاريخا طويلا في العيش المشترك الايجابي، أم سيستمر “نهج” تحميل الآخرين كل المسؤولية في ما آلت اليه نينوى من تدمير للبنى التحتية وتفكك في النسيج الاجتماعي ومن ثم تراجع اقتصادي ومعرفي وثقافي.

يقول كتاب وصحفيون تابعو تجارب الحروب التي خرجت من العنف ان الكوارث التي حلت بهم “ايقظتهم من رقدة أوهام طويلة ونبهتهم الى خطورة سلوكيات وافكار ظلوا يتبنونها طوال عقود، وانهم امام خياري الاستمرار في تلك السلوكيات ما يهدد وجودهم او تغييرها والانطلاق نحو حياة جديدة”.

يذكر الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، وهو اكاديمي سوداني وباحث دولي في مجالات القانون والعدالة والتنمية الاجتماعية، نقلا عن صديق راوندي، في مقال طويل عن التجربة الرواندية في السلم والتنمية: “كارثة الإبادة الجماعية أيقظتنا على خياري الفناء أو البقاء. بعد الكارثة أصبح واضحاً لنا أن البقاء يتطلب تغييراً جذرياً في تفكيرنا ومعتقداتنا وسلوكنا. وما يرى اليوم في رواندا من تطور (سلم مجتمعي وتطور بنيوي وتحقيق معدلات تنمية هي الاعلى افريقيا) هو نتاج الوعي بتلك الكارثة”.

ويحدد زميل الدكتور سلمان، “الأسس” التي تبنتها رواندا لتثبيت السلام وتحقيق التعايش المجتمعي ومن ثم التنمية والازدهار الاقتصادي:

– اعتماد رؤية سياسية واجتماعية جديدة لإعادة تأسيس (المجتمع والدولة) وخلق التنمية بتبني فكر معتدل منفتح يمهد لاقامة ادارة متقدّمة تحقق التقدّم والتنمية والرخاء، وهو ما يتطلب تقديم برنامج متكامل يتضمن جدولاً زمنياً للتنفيذ.

– اطلاق برنامج مصالحة وطنية متكامل يتم تنفيذه بدقّة.

– تحقيق عدالة تمنع ادخال أحد السجن إلا بعد إدانته في المشاركة في الإبادة الجماعية بواسطة محكمة مختصة. وعدم حرمان أحد من وظيفته إلا بعد إدانته.

– تثبيت أسس المواطنة، باعتبارها المصدر الوحيد للواجبات والحقوق، والغاء الهويات القومية والقبلية والدينية والمذهبية والجهوية.

– تبني برنامج متكامل وقوانين صارمة لمحاربة الفساد بما فيها الزام كل الوزراء والمسؤولين توضيح ممتلكاتهم العينية والنقدية منذ اليوم الاول لتوليهم المسؤولية.

– التركيز على التعليم باستغلال كل الاموال المتاحة في تطوير التعليم وجعله مجانيا وإلزاميا حتى نهاية المرحلة الثانوية، مع تواصل مجانيته في الجامعات. والاعتراف باللغات السائدة (في رواندا هي الفرنسية والإنجليزية والسواحيلية واللغة الوطنية كيني رواندا).

ويرى باحثون ان تلك النقاط تمثل محاور ارتكاز في اي (دولة – ادارة)، وهي وصفة قابلة للتطبيق في محافظة نينوى مع تعديلها وفق متطلبات طبيعة الصراع وخصوصية البيئة ومتطلبات المحيط، لاعادة البناء المجتمعي وتحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية والتطور العمراني، مدعومة بارث طويل من التعايش المشترك وبقدرات اقتصادية جيدة ومساحة وموقع جغرافي مميز وقدرات بشرية كبيرة وكوادر معرفية قابلة للتطوير.

لكنهم ينبهون في عين الوقت الى خصوصية كل مجتمع، والى أهمية ضمان الحريات الأساسية بما فيها السياسية، والديمقراطية التعددية ومنع بروز شمولية الدولة والحزب الواحد، لضمان استمرار التنمية والتطور الاقتصادي الى جانب السلم المجتمعي ومنع حصول انتكاسات.

يقول الرئيس بول كاغامي: “إذا كانت بلادنا قد أحرزت المكانة الاولى في إفريقيا، ولفتت أنظار العالم بأسره اليوم خلال اقل من عقدين عقب الحرب المدمرة، فليس ذلك بوجود الفاتيكان او الكعبة او البيت الأبيض او تاج محل عندنا، بل لأن أبناء رواندا وبناتها، وخاصة الشباب والنساء سامحوا أنفسهم بشأن الماضي وأخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلدهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية. إنه ببساطة ثمرة لالتزام أمة بأكملها ونتاج لإرادة سياسية. في رواندا نحلم بالمضي بعيدا بفضل وعي هذا الشعب وهؤلاء الشباب.”

في نينوى يملك أبناؤها الكثير، فهناك ثروات طبيعية وهناك معالم اثرية عالمية ومعالم دينية، وتاريخ عميق من التعايش الايجابي، ومصالح مشتركة عميقة، لكن السؤال هل سيتبنى شباب وبنات نينوى رؤى التسامح والتصالح وهل سيملكون وعي وارادة الاعتراف بالاخطاء وتصحيح المسار؟ وهل سيأخذون المبادرة لتقرير مصير مناطقهم اعتمادا على أسس المواطنة والعمل المشترك والابتكار لخلق الانطلاقة وتحقيق التنمية؟

 

مقالات ذات صلة

‫21 تعليقات

  1. I simply couldn’t depart your web site before suggesting that I really enjoyed the standard info an individual supply for your guests?
    Is gonna be back often in order to check out new posts

  2. Howdy! This is my first visit to your blog! We are a team of volunteers and starting a new initiative in a community in the
    same niche. Your blog provided us useful information to work on. You have done
    a outstanding job!

  3. Hello there! I simply wish to give you a big thumbs up for the great information you have got right here on this post.
    I am returning to your web site for more soon.

  4. Fantastic goods from you, man. I’ve take into account your
    stuff prior to and you’re just extremely great. I actually like what you’ve got right here, certainly like what you’re saying and the way in which by which you say it.
    You are making it enjoyable and you still care for to keep it smart.

    I can’t wait to learn much more from you.
    That is really a tremendous web site.

  5. Hello there! This article couldn’t be written much better!
    Going through this post reminds me of my previous roommate!
    He always kept talking about this. I most certainly will
    send this article to him. Pretty sure he’s going to
    have a very good read. Many thanks for sharing!

  6. You could certainly see your skills in the article you write.
    The sector hopes for even more passionate writers such as you who are not afraid to
    say how they believe. All the time follow your heart.

  7. Hi there, just became alert to your blog through Google, and found that it
    is really informative. I am gonna watch out for brussels.

    I will be grateful if you continue this in future. Numerous people will
    be benefited from your writing. Cheers!

  8. Hey There. I found your blog using msn. This is an extremely well written article.
    I will make sure to bookmark it and come back to read more of your useful
    info. Thanks for the post. I’ll definitely return.

  9. I do not even understand how I ended up here, but I believed this
    publish was good. I don’t realize who you might be however certainly you are going to a well-known blogger when you aren’t already.

    Cheers!

  10. I’ll right away take hold of your rss as I can’t to find your e-mail subscription hyperlink or
    newsletter service. Do you’ve any? Kindly permit me realize so that
    I may just subscribe. Thanks.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى