“المهرج” وحيداً في مدينة البصرة
محمد سمارة- البصرة
باللونين الأحمر والأبيض يرسم “المهرج البصري” على وجهه إطلالة ساخرة وهو لا يتوقف عن الرقص أمام المرآة، وبعد أن ينهي مكياجه ويرتدي زيه الملوّن المعتاد ينطلق إلى الجمهور ليرسم على وجوههم ضحكات لا تتوقف.
إنه “علي صباح” المقيم في البصرة جنوبي العراق والذي يقترب من عقده الثالث من العمر.
بدأ “علي” مشواره منذ كان صبياً مراهقاً، ارتدى هذا الزي لأول مرة احتفالاً بفوز المنتخب الوطني في تصفيات كأس آسيا سنة 2007، يومها خرج إلى الشارع وصار يرقص.
“شاهدت تفاعل الجمهور مع هذه الشخصية وتصفيقهم لي، فأخذت على عاتقي أن أستمر في هذا الزي وأن يرافقني طوال حياتي”.
يحكي “علي” أنه تعلم أصول التهريج من القراءة عنه فقط، إذ لا معاهد ولا أكاديميات تقول لك كيف تصبح مهرجاً، “أنا محب للقراءة.. بدأت اطبق ما في الكتب وادخل لمساتي الخاصة عليها”.
في عروضه يتحلق الأطفال حوله لمشاهدة حركات بهلوانية هو لا ينصح أحداً بتقليدها لما فيها من خطورة كبيرة، منها السير على اليدين وهو يحمل أشياء قابلة للكسر بين قدميه، ومنها الشقلبة الخلفية في وضع الوقوف تليها رقصات هيب هوب، ومزيد من الحركات التي تعلمها عندما كان يمارس رياضة الكاراتيه قبيل ارتداء هذا الزي.
يقول علي “كنت بطلاً في لعبة الكاراتيه، تعلمت الكثير من الحركات التي ساعدتني في كسب جمهور جديد وهو الشباب بعد أن كان الصغار هم جمهوري الوحيد”.
كلمة “عيب”
إلى جانب نشاطه كمهرج، احترف عليّ فن التمثيل فصمم وشارك في مجموعة من العروض المسرحية على المسارح التجارية ثم اتجه إلى مسرح الشباب والرياضة في “منتدى الاصمعي” في مركز مدينة البصرة.
مثل أيضاً في عروضٍ على خشبات مسارح جامعية وكان بطلاً في مسرحية “ولادة من باطن الأرض” للمخرج الاكاديمي “علي عبد الله” التي لعب فيها دوراً مزج بين المونودراما والرقص التعبيري.
لكن شغف هذا الشاب بقي منصباً على التهريج، فأسس “فرقة مهرجي البصرة” التي قدمت عروض تهريج ورقصات هيب هوب في مناسبات مختلفة وأشرفت على تدريبات للأطفال ثم توقفت عن العمل.
يقول علي: “دربت العديد من الشباب والأطفال على التهريج وكيفية صناعة الشخصية وصناعة الملابس و المكياج وقدمنا مجموعة من العروض وحصلنا على شهادات وجوائز كثيرة من مؤسسات مختلفة منها وزارة الشباب والرياضة ووزارة التربية وكذلك مؤسسات إنسانية تعنى بأمور الطفل”.
يتابع أن انتقادات لاذعة تلقاها هو وأعضاء الفرقة من محيطهم الاجتماعي وكانت كلمة “عيب” تلاحقهم طوال الوقت، “جميع من حولي كان رافضاً لما أقوم له، حتى عائلتي، وجهوا لي عبارات قاسية ومؤذية أثناء العمل وأثناء التجول مرتدياً هذا الزي، وحصل الأمر نفسه مع أفراد الفرقة”.
بسبب تلك الانتقادات غادر جزء من أعضاء الفرقة العمل ثم غادر جزء آخر لأسباب اقتصادية، “فالعروض لم تكن تدرّ علينا مكاسب وفيرة”، يوضح، “وهكذا بقيت مهرجاً وحيداً في مدينة البصرة”.
التهريج من دون ثمن
تأثر عليّ كثير بالشخصيات الكوميدية العالمية مثل “شارلي شابلن” و”مستر بين” و”جيم كيري” وكانت مصدراً لإلهامه وإبداعه، لكنه يؤكد أنه يبتعد كثيراً عن تقليد حركاتهم متخذاً لنفسه طريقاً خاصة ليقترب أكثر مما يحبه ويفهمه أهل المدينة التي يسكنها مع استخدام وسائل ترتبط بالمكان كموسيقا البصرة وأزيائها. “لم أقلد أحداً من هؤلاء النجوم وكانت لي شخصية مهرج منفردة لا يشابهها أحد في أي مكان” يقول.
بمرور الوقت أصبحت هواية التهريج مهنة يعتاش منها عليّ، ورغم مكاسبه القليلة إلا أنه وضع في حساباته “التهريج بدون ثمن” للمؤسسات الخيرية والأطفال المصابين بمرض السرطان والفقراء والأيتام.
“أكثر عروضي هي للأيتام والفقراء وما أحصل عليه من أموال فهو من عروضي في الأماكن التجارية وبعض منظمات المجتمع المدني، ورغم أن الأجور بسيطة إلا أنها تسد حاجتي.. لكن في الآونة الأخيرة صرت أكتفي مادياً بعد أن أصبحت لي عروضاً أسبوعية في المولات والمطاعم وأضفت لها الرسم على وجوه الأطفال، رسمة المهرج الضاحك”.
مهرج في نقابة الفنانين
رغم أن علي لم يكمل دراسته ولم يحصل على شهادة جامعية إلا أن الخبرة والمهارة التي اكتسبها كانت كافية كي يحصل على عضوية في نقابة الفنانين العراقيين، ليكون المهرج الوحيد في البصرة الذي يحصل على هكذا عضوية.
يقول “وثقت عروضي في أرشيف النقابة، وبدأت النقابة باحتضاني وإعطائي فرصة للعرض خلال نشاطاتها الفنية، ورغم صغر تلك المساحة إلا أنها قدمتني إلى الجمهور بصورة أوسع”.
يذكر أن التهريج مهنة قديمة يفوق عمرها الثلاثة آلاف عام، وقد تم تنظيمها في أول سيرك في منتصف القرن الثامن عشر. وكان هاجس المهرج على مر العصور إيصال الجمهور إلى أعلى مستوى من الضحك والمتعة طوال وقت العرض.