في ذي قار: ألف صندوق بريدي غيبتها شبكات التواصل الاجتماعي

المنصة – علي الناصري

في بناية قديمة شبه مهجورة تتبع لدائرة البريد والاتصالات في مدينة الناصرية غرفة بداخلها حوالي ألف صندوق بريدي لم يعد لها استخدام منذ دخول الانترنيت منازل العراقيين.

يقف مسؤول شعبة الحركة البريدية في محافظة ذي قار (400 كم جنوب العاصمة بغداد) سامر باسم أمام الصناديق الصغيرة المهجورة منذ حوالي العقدين من الزمن وفي عينيه حسرة. يقول: “هذا هو حال الصناديق البريدية.. لقد أغلقناها عام 2003 مع دخول الانترنت وخدمة الماسنجر وشبكات التواصل الاجتماعي إلى البلاد”.

صناديق مهجورة

بحسب الموظف كان هذا المبنى قبل عقدين من الزمن يشهد حركة يومية لمئات المتلهفين لاستقبال الرسائل من الأهل والأصدقاء في بلاد المهجر وكانت أصوات حركة المفاتيح عند فتح أو إقفال الصناديق تسمع إلى البهو، ويتخللها أحاديث جانبية بين زوار الصناديق تبث البهجة في المكان.

الصمت الذي يسود اليوم في القاعة المهجورة يوحي للزائر بأنه في عنبر في أحد السجون، والخطوات التي نقطعها يمكن سماع صداها يعمّ المكان. وعلى جانبي الغرفة تصطف الصناديق الحديدية على شكل أقفاص طولية يتوسطها باب صغير موصد، كان مخصصاً لدخول موظف البريد لتوزيع الرسائل على الصناديق. 

حارس للمشاعر

داوود سلمان حارس البناية والصناديق معاً، غادر المكان مؤخراً مرغماً هو الآخر بعدما بلغ الستين من العمر، وهو السن القانوني للتقاعد في العراق. اتصلنا به لنحدد موعداً للحديث عن خدمته التي قضاها بين الصناديق البريدية.

أشعل سيجارته عند اللقاء وأخذ منها نفساً عميقاً مستذكراً خدمة امتدت أكثر من 30 عاماً قضاها في حماية أسرار الصناديق، وما أن أفرغ دخان سيجارته حتى قال: “كنت أحفظ أسماء المشتركين وأرقام صناديقهم واحداً واحداً”، ثم تابع متحسّراً: “لقد أحلت على التقاعد.. أصبجت خارج الخدمة حالي كحال تلك الصناديق”.

يرجع داوود عقوداً إلى الوراء مستعيداًَ سنوات عمله في دائرة البريد. يقول “كنت احرس كل المشاعر والأحاسيس والذكريات في صناديق بريدية كانت تحمل رسائل من مختلف دول العالم إلى عائلات واصدقاء في المدينة.. لقد كانت المنفذ الوحيد للتواصل مع العالم الخارجي إبان تسعينيات القرن الماضي حيث لا انترنت ولا تواصل اجتماعي كحال اليوم”.

ويقارن داوود بين رسائل الأمس واليوم وهو ينظر لنا بعينين ذابلتين ويشير إلى “أن رسائل الماضي كانت أكثر شاعرية وصدقاً كونها تأخذ وقتا عند الكتابة وتتطلب ترتيبات بدءاً من وضع طابع بريدي عليها وصولاً لإيداعها عند البريد الخارجي، على عكس رسالة اليوم من خلال الهاتف النقال التي لا تحمل طعماً ولا لوناً ولا رائحة”.

طرود بريدية

بعد ان غابت الرسالة الورقية عن صناديق البريد استحدثت الدائرة شعبة للطرود البريدية في مبنى دائرة البريد والاتصالات لتتلقى طروداً تحمل الأمانات والهدايا والطلبيات ليتم توزيعها على أصحابها. وغالباً ما تكون أحجام الطرود كبيرة، مكتوب عليها أرقام هواتف وعناوين ومعلومات يتم من خلالها تامين الاتصال وتسليمها إلى اصحابها.

غير أن أحد المشتركين وهو الباحث والاكاديمي صباح محسن مازال يحتفظ بصندوقه البريدي ويواظب على تجديد اشتراكه السنوي ليحتفظ بمنفذ له للتواصل مع جامعات وزملاء ومؤسسات ودور نشر يبعثون له بالكتب والمصادر المختلفة بتكاليف زهيدة كما يقول في حديثه لنا.

تواصل تقليدي

نظام التعامل البريدي مازال بعيد المنال في طريقة المخاطبات والتواصل بالنسبة للأشخاص وكذلك المؤسسات الحكومية كما هو معمول به في العديد من دول العالم.

وتلتزم الدوائر الحكومية والشركات المحلية بأن يكون لها صندوق بريدي مسجل ومعلن عنه إلا أنه في حقيقة الأمر خارج الخدمة لا يتعامل به أحد والاعتماد مازال على الأيميل او شبكات التواصل الأخرى وبشكل محدود أيضاً. 

وبدلا عن هذا، فإن “المعتمد” وهو موظف تعتمده كل دائرة حكومية، يقوم بنقل جميع المخاطبات والمراسلات الرسمية بين المؤسسات فيسافر قاطعاً مئات الكيلومترات سواء الى وزارات ومؤسسات الحكومة المركزية في العاصمة بغداد أو إلى المحافظات الأخرى في طريقة توصف بالتقليدية في عصر السرعة والتكنولوجيا.

“واصف جبار” أحد هؤلاء المعتمدين في إحدى الدوائر الحكومية يقول إن دائرته لديها صندوق بريدي وكذلك ايميل رسمي إلا أنها لا تتعامل بهما وتعتمد على المخاطبات الورقية التي يضطر الى نقلها لمسافات طويلة فيما يزال يحتفظ بمفتاح الصندوق البريدي في درج مكتبه منذ سنوات طويلة.

اختصار الوقت والمسافات

دخول تكنولوجيا التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية اختصر المسافات والزمن معاً وجعل الرسالة التقليدية من موروثات الزمن الماضي بعدما أصبح اقتناء آخر إصدارات الهواتف المحمولة أهم بكثير من تجديد الاشتراك السنوي للصندوق البريدي.

حيدر كاظم من أهالي مدينة الناصرية عاد للتو من بلاد المهجر في زيارة قصيرة إلى عائلته يتحدث لنا عن أهمية الصندوق البريدي في وطنه الثاني ويقول “لدي صندوق بريدي في مدخل منزلي في مدينة كنتاكي الاميركية وأتلقى منه جميع المراسلات والطرود الرسمية فيما غابت عنه رسائل الأهل والأصدقاء بعد عام 2003 وأصبح تواصلنا الكترونياً” .

ويضيف حيدر أنه كان في الماضي ينتظر بلهفة وصول رسالة من ذويه وأصدقائه وما زال يحتفظ بجميعها للذكرى لكنها تحولت اليوم إلى رسائل هاتفية قصيرة.

انتفاء الحاجة إلى الصناديق البريدية في مدينة الناصرية مؤشر واضح على تغير أسلوب الحياة بعد عام 2003 والتي امتدت تداعياته إلى الكثير من أساليب التواصل التقليدية الأخرى ومنها تقديم التهاني أو التعازي والتي اختصر أغلبها من خلال إرسال رسالة نصية قصيرة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى