نواعير “حديثة”.. ذاكرة الأنبار التي لا تتوقف عن الدوران

الأنبار- رسل ظاهر

عند غروب الشمس يتجه العديد من أهالي مدينة حديثة التابعة لمحافظة الانبار الى التقاط الصور التذكارية على ضفاف نهر الفرات بالقرب من النواعير، تلك الآلات المائية التي باتت جزءا من تراث ممتد لثلاثة آلاف سنة.

يمكن مشاهدة بقايا من تلك النواعير على ضفاف النهر في عدد من المدن الاخرى التابعة للمحافظة، منها هيت والبغدادي وراوه وعنّه القديمة والقائم، إلا أن عددها جميعاً لا يتجاوز العشرين ناعوراً، فمعظم النواعير الأخرى اندثر بسبب انحسار مياه نهر الفرات إثر إنشاء سد القادسية، فضلا عن العديد من العوامل الأخرى.

تصنع الناعورة في العادة من خشب شجرة التوت وتدور بقوة المياه الجارية فتنقل الماء بواسطة 24 دلواً مربوطاً بكل عجلة من نهر الفرات إلى القنوات الفرعية لتسقي المزروعات.

إلا أن السقي بهذه الطريقة لم يعد متاحاً اليوم بحسب كريم دلي، أحد المزارعين الذين استخدموها سابقا في ري أرضهم بسبب انتشار طرق الري الحديثة وإنشاء السدود وانخفاض مناسيب المياه. 

يوضح هذا المزارع أن “الاعتماد على النواعير في سقي المزروعات كان كاملاً قبل ظهور المضخّات الكهربائية، وكان السقي يمتد من الصباح إلى اليوم التالي أحياناً، ويتم تقسيم ساعات السقي بين المزارعين بالتناوب حسب مساحة الأرض المزروعة”. 

ويضيف المزارع: “من النادر اليوم استخدام النواعير في سقي المزروعات لأنها بطيئة جداً بالمقارنة مع الوسائل الحديثة، لكنها بقيت تمثّل إرثاً تاريخياً يرتبط باسم الانبار”.

نظراً لأهميتها التاريخية دخلت نواعير مدينة حديثة في مطلع العام 2021 الى لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وتعد هذه المدينة الأشهر بين مدن المحافظة في احتوائها على تلك النواعير، وهي المدينة نفسها التي أنشئ فيها سدّ القادسية الذي يساهم في توليد الكهرباء بطاقة إنتاج قصوى تصل إلى 1050 ميجاوات.

بهاء ياسين عبد الحليم، مدير البيت الثقافي في حديثة، يعتبر ان إضافة نواعير حديثة على لائحة التراث العالمي يمثل أهمية كبيرة لحديثة ولمحافظة الأنبار عموماً.

ويوضح أن اختراع النواعير يعود إلى الحضارتين السومرية والبابلية حين كان المزارعون في حاجة ماسة لري مزارعهم البعيدة نسبياً عن ضفاف الأنهار فاخترعوا آلة لرفع المياه من باطن النهر إلي شاطئه.

صباح نوري آل خليفة أحد النجارين القلائل المختصين في صناعة وإصلاح الناعور بمدينة حديثة يقول “تصنع النواعير من أنواع خاصة من الخشب قادرة على تحمل الرطوبة والمياه، ويفضل أن يكون الخشب من شجرة التوت لأنه يقاوم الماء لأكثر من 25 عاماً”.  

اختص آل خليفة في مدينة حديثة بصناعة النواعير وتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد عبر أجيال عدة. ويقول النجار صباح نوري آل خليفة أن هذه الصناعة تتطلب خبرات خاصة، موضحاً ان حجم وقطر الناعور يختلف بحسب ارتفاع المياه عن مستوى الأرض فكلما ارتفعت يكون حجمه أكبر، ويتكون من 17 صنفاً. 

ويضيف “سابقاً قبل استحداث مناشير الكهرباء كان النجار يحتاج شهراً حتى يكمل صناعة الناعور أما في الوقت الحالي فنحتاج من عشرة إلى خمسة عشر يوماً كي نكمل المهمة”. 

ويتكون الناعور من 24 إلى 32 عوداً بحسب حجمه، وتكون عيدان النواعير حتماً من شجرة التوت أما الطوق الذي يحيط بالعيدان فهو من خشب الغَرَب خفيف الوزن “حتى يكون دوران الناعور أسرع” بحسب صباح.

ويتابع أن “الفلاحين في السابق كانوا يزرعون هذا النوع من الأشجار كي يحصلوا على الخشب ويعطوه للنجار، أما في الوقت الحالي فيمكننا الحصول عليه من السنجق، وهي منطقة زراعية في حديثة قرب النهر”.

دائرة التراث في حديثه وبعض المساهمين قرروا احياء هذا التراث من الاندثار مستعينين بخبرات النجار صباح ونجارين آخرين مختصين بصنع الناعور. 

يقول صباح “نحاول أن نجعل هذه الحرفة مستمرة ونجعل أبناءنا يتعلمون صنعها، لكننا نحن نحتاج إلى دعم مادي من أجل الاستمرار والحفاظ على النواعير التي اصبحت حديثة بفضلها مدينة سياحية يتوافد عليها الزوار من مختلف أنحاء العراق”. 

 وتتراوح كلفة صنع الناعور الواحد بين خمسة عشر وعشرين مليون دينار عراقي ورغم عدم الاستفادة منها في ري المزروعات، إلا أن سكان حديثة متمسكون بها باعتبارها جزءاً من ذاكرة وهوية المدينة. 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى