جنوب العراق خلال عقدين.. مسرح لحركات دينية شيعية بأفكار مهدوية ووهابية

بغداد- منتظر الخرسان

شهد الأسبوع الماضي ظهور دعوات دينية وصفت “بالمتطرفة والمعادية للمذهب الشيعي” أطلقها اتباع ومقلدون لرجل الدين الشيعي المثير للجدل محمود الحسني الصرخي، جوبهت حكوميا باصدار مذكرة قبض بحقه يوم الثلاثاء الماضي 12 نيسان (أبريل) بالاستناد الى مادة قانونية تنص على معاقبة كل يسيء لمعتقد او طائفة او دين بإحدى الطرق العلانية.

القضية أثارها في البداية خطباء مساجد من أتباع الصرخي منتشرين في مدن وسط وجنوب العراق خلال خطب الجمعة في شهر رمضان كانوا خلالها يرتدون الستر الشبابية وربطات العنق ويتزينون بقصات شعر عصرية -وهو ما يخالف المورث الديني الشيعي في امامة الصلاة- طالبوا فيها بهدم المراقد الدينية وتسويتها بالأرض مستندين الى أحاديث ومرويات دينية.

ولم تمض بضع ساعات على خطبة الجمعة حتى انتشرت دعوات وكلاء الصرخي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتثير حفيظة أطياف واسعة في المجتمع الشيعي العراقي، إذ أعادت إلى الأذهان الغزوات التي شنتها الحركة الوهابية بين عامي 1801 و 1806 على مدينتي النجف وكربلاء بغرض هدم المراقد فيهما، ورغم التصدي للحركة آنذاك إلا أنه اوقعت الكثير من القتلى ونهبت أموالاً وممتلكاتٍ تعود للمراقد.

معتقد الحركة الوهابية تم تطبيقه بشكل صريح في السعودية عام 1925 اذ أقدمت الحركة على هدم مراقد أئمة الشيعة المدفونين في ارض البقيع التابعة للمدينة المنورة اذ كانت مراقدهم شاخصة هناك وفقا لكتب التاريخ.

وبحسب محللين فإن الدوافع السياسية كانت دوماً العنصر الخفي وراء نشوء الحركات الدينية المتطرفة بالإضافة الى استغلال تلك الحركات للفكرة المهدوية في الثقافة الشيعية، إذ تشكل مرتكزا أساسيا لدى الشيعة الاثني عشرية.

ويعتقد أتباع هذا المذهب بخروج الامام المهدي المنتظر في آخر الزمان وان بظهوره سيسود العدل والامان في الأرض بعد أن ملئت جوراً، وهو ما يجعل بسطاء الناس في حالة انتظار لقدوم العدل، حالة استفادت منها العديد من الحركات التي تسمى “مهدوية”.

الساحة العراقية بعد عام 2003 شهدت ظهور تلك الحركات وتحديداً في مدن وسط وجنوبي العراق متخذة شعار الامام المهدي عنواناً لها والبعض الاخر منها طرح شخصية دينية تدعي المرجعية لمنافسة المرجعيات الشيعية التقليدية، مطلقين فتاوى غير مألوفة.

ثلاث حركات هي الأبرز على الساحة العراقية ظهرت بعد سقوط النظام السابق بعد عام 2003، هي حركة جند السماء، واتباع احمد بن الحسن اليماني، والحركة الصرخية من اتباع رجل الدين محمود الحسني الصرخي، وتمتلك هذه الحركات اجنحة مسلحة خاصة بها.

حركة جند السماء اختلف المراقبون على تحديد اسم زعيمها، منهم من قال احمد كاظم الكرعاوي وآخرين أسموه ضياء كاظم الكرعاوي من مواليد محافظة الديوانية 1969، ادعى انه الامام المهدي المنتظر واستمر في هذه الدعوة لسنوات وتعرض للاعتقال مرات عديدة في مطلع تسعينيات القرن الماضي بتهم تتعلق بممارسة الشعوذة والسحر بحسب ما ذكره الباحث زهير كاظم عبود، وتمكن بعد فترة من الزمن من شراء مزرعة في منطقة الزركة شمالي الكوفة متخذا منها مقرا له.

الكرعاوي نجح في جمع المئات من الاتباع خلال الفترة التي أعقبت تغيير النظام الحاكم في العراق مستهدفا البسطاء في المناطق النائية من القرى والارياف بعد اقناعهم بالاحاديث والروايات الخاصة عن المهدي، وقد اعتمد في دعوته على أشخاص مقربين منه مركزاً دعوته على مدن بابل والديوانية والنجف.

وفي عام 2006  استفاق أهالي النجف وأمام عتبات أبواب منازلهم كتاب اسمه “قاضي السماء” يحمل صورة الكرعاوي واضعا على راسه عمامة سوداء في إشارة لانتسابه الى النبي محمد مرتديا العباءة العربية السوداء سابلا احدى يديه ورافعا يده الأخرى وكأنه يحيي بها جماعة معينة واعلن من خلال كتابه انه “قائم آل محمد” وانه “موصوف بلسان رسول الله والائمة المعصومين” وانه “اجمل الأدلة النقلية على ولادة القائم ونشاته اخر الزمان”.  وذكر طلاب في علوم دينية ان إصداره هذا لم يكن من كتابة شخص بمفرده بل من صنع مؤسسات عملت على البحث في موروث الاحاديث الشيعية وعلى خلط البعض بالبعض الاخر للبس الامر على القارئ.

كما أدعى الكرعاوي بانه “نطفة من صلب الامام علي بن ابي طالب حفظها الله وانزلها الملاك جبرئيل ووضعها في رحم امرأة عراقية”، وهو طرح لاقى تأييداً وقناعة من كثير من الاتباع على الرغم من بساطته الذين اندفعوا للدعوة إلى قتل المرجعيات الدينية في النجف وإلى احتلال مرقد الامام علي لإعلان قيام دولتهم.

وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني 2007 كانت بداية النهاية للحركة بعد ان داهمت قوة امنية مزرعة في شمال مدينة النجف خلال حملة تفتيش في الأيام الأولى من شهر محرم (وهي أيام مقدسة لدى الشيعة اذ يتم فيها احياء ذكرى مقتل الامام الحسين) وتمت مواجهة هذه القوة بنيران كثيفة أوقعت خسائر في صفوف الشرطة.

وتبين لاحقاً أن الحركة مسلحة بصواريخ قاذفة من نوع RBG12 و RBG18 لا يمتلكها الجيش العراقي في ذلك الوقت وكانت متوفرة لدى الحرس الجمهوري لرئيس النظام السابق صدام حسين، وتم اسناد الجيش من قبل طيران الجيش الأمريكي لتنتهي المعركة بعد عدة ساعات بمقتل 150 شخصاً بينهم نساء وأطفال واعتقال البعض من مقاتلي الحركة فيما بلغت عدد خسائر القوات العراقية 60 جريحاً.

وزير الدفاع العراقي الأسبق الفريق الركن عبد القادر العبيدي فتح ملف حادثة الزركة في احدى لقاءاته الصحفية ليكشف ان مشروع الحركة الأول هو قتل المرجعيات الدينية باعترافات الأشخاص الذي تم اعتقالهم.

وبعد مرور عام واحد ظهرت حركة احمد بن الحسن اليماني، وهي الأخرى حركة مهدوية ادعى زعيمها بانه وصي ورسول الامام المهدي. ورغم انها سبقت حركة جند السماء في فكرة الدعوى لانصاره وتمكنت من فتح مكاتب بشكل علني في جميع مدن العراق وإصدار صحيفة باسم “القائم” إلا أنها لم تظهر بشكلها المسلح الا في عام 2008.

بحسب الكاتب زهير كاظم فان الاسم الصريح لزعيم هذه الحركة هو احمد إسماعيل من مواليد البصرة 1968 حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية، كان قد انتقل الى مدينة النجف للدراسة في الحوزة العلمية، وبعد مرور فترة من التحاقه بدأ بنقد طرق التدريس في الحوزة ثم ادعى -وفقا لرؤيا زعم انها جاءته في المنام – انه شاهد الامام المهدي الذي طالبه بالالتحاق به.

وامتلكت حركة اليماني جناحاً عسكرياً مسلحاً لم تعلن عنه، وهي متهمة بمقتل قائد شرطة بابل اللواء قيس المعموري بعبوة ناسفة عام 2007 وفقا لوزير الدفاع الأسبق الفريق الركن عبد القادر العبيدي.

وبلغ عدد أتباع اليماني قرابة 500 شخص معتمدا على عامة الناس أيضا رغم ان البعض من أصحابه منذ ذوي الشهادات متخذا من قربه منهم أسلوبا لإقناعهم بترك مراجع الدين وومبايعته باعتباره الممهد لظهور المهدي.

في التاسع من شهر محرم عام 2008 والذي تزامن مع يوم الجمعة بدأ اتباع اليماني بالتحرك والظهور وهو ذات التاريخ التي تتناقله الاحاديث حول موعد ظهور المهدي، ويكون في الأيام الأولى من شهر محرم. فانطلق عناصر الحركة في مدينتي الناصرية والبصرة جنوب العراق متمركزين في عدد من الاحياء الفقيرة حاملين الأسلحة الرشاشة واضعين على جباههم قطع من القماش الأصفر.

القوة الأمنية في الناصرية فوجئت بدقة الإصابات التي أصيب جنودها بها عبر سلاح قناص اذ تسبب في غضون ساعتين تقريبا في قتل 4 من كبار الضباط، واستمر القتال حتى منتصف الليل ليتم اثناء ذلك هدم احدى الحسينيات التابعة لهم واعتقال العشرات منهم واغلاق مكاتبهم ولم تكشف المصادر عن مصير “احمد بن الحسن اليماني” ان تم اعتقاله او قتله.

لم تنته الحركات عند هذا الحد بل تزامن مع وجودها ظهور شخصية دينية اتخذت منهجاً مختلفاً من دون التركيز على فكرة الامام المهدي وذلك من خلال محمود الحسني الصرخي الذي طرح نفسه مرجعاً دينياً في مواجهة المرجعيات التقليدية.

بزغ نجم الصرخي بعد سقوط النظام الحاكم عام 2003، وهو من مواليد 1964 في مدينة الكاظمية وسط بغداد وكان احد أساتذته في الحوزة العلمية المرجع الديني السيد محمد الصدر، وعمد على إقامة صلاة الجمعة بعد استشهاد الصدر واسماها “صلاة المسجد الأقصى” وعلى اثرها تم اعتقاله واطلاق سراحه بعد فترة.

الصرخي اتخذ من مدينة كربلاء مقرا له والتف حوله اتباع من جميع مدن العراق كما تمركز أتباعه في المناطق النائية من الأرياف مصدراً العديد من الكتب، وعُرف عنه مناهضته للمرجعيات الدينية التي ليست من أصول عربية وعراقية كالمرجع السيستاني، ودائما ما يصف نفسه بالمرجع الديني العربي العراقي.

رجل الدين الشاب واجه مطاردات شديدة من قبل القوات الامريكية في الأعوام 2003 و 2004 بعد ان اصطدم معهم من قبل أنصاره لرفضه الاحتلال وقتل احد جنودهم ليختفي عن الأنظار لفترة طويلة ويتواصل مع اتباع عن طريق وكلاء له. ومن المعروف عن الصرخي دعمه للمظاهرات خلال فترة “الربيع العربي” ومناهضته للسياسيين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.

اثار الصرخي الجدل واللغط بعد مهاجمته المتكررة للمرجعيات الدينية وفي مقدمتهم السيد السيستاني رافضا فتوى الجهاد الكفائي واصفا اياها باثارة الحرب الطائفية. ولدى الصرخي اراء فقهية مغايرة لما هو معهود عليه كجواز غناء الراب او ما تم وصفه بـ “الراب الإسلامي” باستخدام طريقة الغناء ذاتها ولكن بكلمات والحان إسلامية، حتى باتت الحسينيات التابعة له مسرحاً لأغاني الراب بهدف جذب الشباب.

كما اظهرت مقاطع صورية الصرخي وهو يلعب كرة القدم مع اتباعه او يستخدم الكاميرا الفوتوجرافية ويلتقط بعض الصور، وهو ما لم تعهده المرجعيات الدينية من قبله.

أما آخر ارائه فكانت دعوته لهدم المراقد الدينية واضرحة الاولياء مما اثار حفيظة المجتمع الشيعي في وسط وجنوب العراق ليخرجوا في تظاهرات امام الحسينيات والمساجد التابعة له مطالبين بإغلاقها واعتقال اتباعه وعلى اثرها تحركت القوات الأمنية لتعتقل العشرات منهم وفي مقدمتهم خطباء الجمع التابعين له، فضلا عن اغلاق بعض المساجد وهدم أخرى.

وظهرت في السنوات الأخيرة حركات مشابهة لكنها لم تتمكن من جمع مؤيدين لها وانتهت في فترة وجيزة مثل حركة “الامام الرباني” التي ظهرت في ديالى وأسسها فاضل المرسومي الذي ادعى انه “إمام رباني اجتباه الله تعالى” وتم اعتقاله من قبل القوات الامنية.

ويضاف إلى قائمة الحركات الدينية الجديدة “ثورة الحب الالهي” التي تزعمها “حبيب الله المختار” في بغداد داعياً الى التسامح والحب باعتبارهما وسيلة للتواصل بين الطوائف والاديان من خلال الله تعالى وتم اعتقال زعيمها عام 2008.

وأيضاً هناك حركة “اصحاب القضية” وهي من الحركات السلوكية المهدوية، ادعت بان السيد مقتدى الصدر هو الامام المهدي ليعلن الصدر البراءة منهم داعياً الى عدم تصديق أتباعها واصفاً إياهم بشياطين الانس، وغيرها الكثير من الحركات الدينية التي خرجت خلال الـ19 الماضية.

وفي العام 2017 ظهرت الحركة المولوية في المناطق الجنوبية وفي ذي قار تحديدا حيث تم اعتقال قرابة 45 شخص من تابعيها عام 2018، ويقوم نظام الحركة على تبعية كل 50 فرد منهم لشخص يسمى المولوي، وتعتبر الحركة ان المرجعية الدينية بدعة ويرون ان عقل الانسان هو مرجعه.

تعليقاً على تواجد العدد الكبير من تلك الحركات في الأعوام الاخيرة يقول أستاذ علم التاريخ مخلد العامري أن البيئة السياسية والمجتمعية العراقية تربة خصبة لانتاج هذا النوع من الأفكار، و”عادة ما تستهدف تلك الحركات الناس البسطاء ممن يعتمدون في حياتهم على الاحاديث والروايات الغيبية مما يسهل السيطرة عليهم”.

ويرى العامري بان “اغلب أصحاب هذه الدعوات اما مطرودون من المؤسسة الدينية او متهمون ببعض الاختلاسات او تجد لديه ثراء فاحش في غفلة من الأيام رغم فقره في فترة من الفترات مما قد يشير إلى ارتباطهم بمشروعات خارجية أو اجندات سياسية داخلية”.

أما تركيز مدعي هذه الحركات على قضية الامام المهدي فيعزوها العامري إلى أن “أن للإمام المهدي أهمية كبرى لدى لدى أبناء المذهب ويمكن من خلال هذا الطرح ان تنفذ هذه الحركات الى العامة”.

ويرى مراقبون أن الدعوات التي أطلقها اتباع الصرخي قد تكون مدروسة، اذ جاءت بالتزامن مع مشروع مد الانبوب النفطي من البصرة الى ميناء العقبة والذي تم التعتيم عليها كونها تحمل الكثر من الشبهات والاشكاليات غير المعلنة.

أستاذ علم الفلسفة الشيخ حيد التميمي يرى في ظهور الحركات الدينية “افضل الأدوات السياسية لاستهداف المؤسسة الشيعية المتمثلة بالحوزة والمرجعيات الدينية المتواجدة فيها”.

ويجد التميمي ان مجابهة هذه الحركات والتوجهات يتم عبر مؤسسات فكرية وثقافية وبمتابعة من المؤسسة الدينية والحكومة التنفيذية ووسائل الاعلام وان لا تكون مواجهتهم من خلال إجراءات امنية إلا إذا لجأوا للعنف.

استاذ علم الاجتماع الدكتور عدي بجاي يرى ان “ظهور الجماعات الدينية في العراق خاضع لأمرين مهمين همها مستوى انسجام الدعوى مع افكار المتلقي والمكان الذي تكون فيه الدعوة او ما تسمى بالمناطق الرخوة والتي تكون بعيدة عن مراكز المدن عن التمدن الحضري”.

أما أستاذ كلية الاعلام في ذي قار الدكتور ياسر البراك فيجد ان هناك مسببات لظهور هذه الدعوات منها “انتشار مستوى من الجهل وقلة الوعي وسط المجتمع ودخول بعض رجالات الدين الى السياسة مما أسهم في اسقاط رمزيتهم”

ويكشف استاذ كلية الإعلام عن رقم جديد لعدد الحركات المهدوية في العراق يصل الى 36 حركة، “البعض قد أعلن عن نفسه والبعض يعمل بشكل سري”، وهذا يعني ان الفترات المقبلة ستكون مليئة بالمفاجئات على حد وصفه.

ويدعو البراك الحكومة العراقية إلى العمل على “ستراتيجية وطنية عراقية بالتكاتف مع وسائل الاعلام الدينية بهدف مواجهة هذه المعتقدات التي تخلط الأفكار الغيبية بمشروعات سياسية”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى