في العمارة: سفرة رمضانية لجميع الأديان
المنصة- مهدي الساعدي
تسارع الحاجّة ام محمد إلى سكب الحساء في الصحون لتوزعه على جيرانها في محلة المحمودية، أحد الأحياء القديمة والشعبية في مدينة العمارة، إذ لم يتبق على حلول موعد الإفطار الا وقت قليل.
ترسل الحاجّة ابنتها وهي تحمل الصحون في طبقٍ كبير لتدور به على منازل الحي، تشارك جيرانها سفرتها الرمضانية، تطرق ابواب المنازل دون أن تستثني احدا، ومنها دار جارها مندائي الديانة “ابو سعد” الذي يصله نصيبٌ من موائد السفرة الرمضانية على ما درجت عليه العادة في تبادل اطباق الإفطار.
تقول ام محمد “لا نفرق بين احد من الجيران فالعطاء للجميع.. لا يهمنا ديانتهم او انتماءهم المذهبي فهم جيراننا ولهم حق علينا وشهر رمضان للجميع، تلك عادة توارثناها من اهلنا وبقينا نحافظ عليها”.
عرفت الاحياء الشعبية القديمة في مدينة العمارة بتنوع ديانات ساكنيها وتعدد مذاهبهم الدينية، ولم تكن تلك التعددية مانعا للتواصل في كل المناسبات، ومنها تبادل اطباق السفرة الرمضانية بين ابناء الحارة الواحدة.
يقول ابو سعد المندائي “نسكن في حي اغلب سكانه من المسلمين يعاملونا كبقية الجيران، لا يستثنونا في كل المناسبات”.
لم يكن حساء الحاجة ام محمد الشيء الوحيد الذي يوزع في حيها الشعبي، فزينب وهي شابة في مقتبل العمر تطرق ابواب الجيران لتوزيع التمر واللبن في اوعية بلاستيكية جاهزة، فذلك اكثر سهولة واسرع لانجاز مهمتها التي اوكلتها اليها جدتها ام كاظم.
بعد ان تستنفد زينب اوعيتها البلاستيكية المملوءة بالتمر تعود الى المنزل حيث تقوم جدتها بتجهيز وجبة اخرى. تضع الجدة مطحونا من السمسم والشمّر (حبة حلوة كما يسمى محليا) والهال لإضافة نكهة مميزة على التمر، ثم تنطلق زينب من جديد ومعها المأكولات إلى بقية بيوت الجيران ومنهم بيت ابو علاء مسيحي الديانة.
يؤكد جلال دانيال ممثل ابناء الديانة المسيحية في ميسان على أهمية المناسبات الدينية في إظهار التعايش بين مكونات مدينة العمارة، يقول “نحن والمسلمون كالجسد الواحد، نحن منهم وهم منا، كل ما يجري عليهم يجري علينا، نذكرهم ويذكرونا، وعلى هذا المبدأ درجنا وتعلمنا في مدينة العمارة وغيرها من مدن المحافظة الاخرى”.
بحسب مختص في شؤون الاقليات “لا زالت محافظة ميسان تزخر بوجود تعددية دينية، على الرغم من تناقص اعداد غير المسلمين فيها بشكل ملحوظ بعد عام 2003 بسبب الظروف الامنية التي طرأت على البلاد وهجرة الكثير من المندائيين والمسيحيين الى شمالي العراق وامريكا واوربا”.
ويضيف: “اثبت من بقي في ميسان أنهم اصحاب انتماء وتربطهم جذور وروابط مشتركة مع مسلمي المحافظة. وعلى المستوى السياسي نجحت ميسان في تحقيق عدة مكاسب منها الظفر بمقعد نيابي لكتلة الصابئة المندائية، والذي يتحقق لأول مرة في المحافظة بعد ان كان حكرا على العاصمة بغداد”.
ام وئام المندائية تقوم بإعداد وجبة افطار على الرغم من انها ليست صائمة بحسب معتقدها الديني، ولكنها اعدتها خصيصا لرد الطبق الى احدى جاراتها المسلمات التي بادرتها بالعطاء من سفرتها الرمضانية.
يقول ابنها وئام الزهيري “احياؤنا الشعبية لا زالت تمارس العادات والتقاليد نفسها، ولا نجد الامر ذاته في مناطق اخرى او احياء ليست لها جذور شعبية”.
يعزو وئام الامر إلى الثقافة السطحية التي تغزو العديد من فئات المجتمع ويتابع: “بادرتنا جارتنا المسلمة بإرسال اطعمة قبل الافطار، ولم يثنيها كوننا من غير المسلمين، بالمقابل سارعت والدتي إلى إعداد وجبة لإرسالها الى جارتنا، فمن المعيب اعادة الصحون فارغة من غير ملئها بالطعام”.
التعايش الذي يرجع لقرون بين ابناء المدينة الواحدة ادى الى اطلاع ابنائها على معتقدات الاديان الاخرى لتجنب ما تحرمه في شرائعها، يؤكد ذلك ميثم ستار وهو احد مندائيي مدينة العمارة فيقول: “يتجنب جيراننا ايصال لحوم البقر مع ما يوصلوه الينا من موائدهم في مختلف المناسبات، ومنها في شهر رمضان كونهم يعرفون اننا كمندائيين لا نأكل لحوم البقر كما ورد في شريعتنا، ويستعيضون عن ذلك بالدجاج وغيره”.
بدوره يعلّق زعيم الطائفة المندائية في ميسان الترميذا نظام كريدي قائلاً إن “المسلمين يقدرون مشاعرنا حتى في ارسالهم للطعام، حيث يطرق اغلب الجيران بابي عند إرسالهم الطعام.. بدوري اخبرهم اني رجل دين واكلي خاص حتى في داخل منزلي، لكني لا امانع من ارسال اي شيء للاهل او للاولاد فنحن اولا واخيرا عشنا كأهل”.
المهتم بالشأن الاجتماعي الجنوبي محمد كريم، يقول في معرض حديثه عن العادات والاعراف الاجتماعية في ميسان “المجتمع الجنوبي يمتلك نسيجاً متلاحماً، وورث بحكم ذلك مجموعة من العادات والتقاليد التي لا زال يحافظ على الكثير منها وتتجلى تلك العادات في الاحياء الشعبية القديمة”.
ويضيف كريم أن “اكثر المواظبين على احيائها النساء الكبيرات في السن كونهن يمثلن حلقة الوصل بين اكثر من جيل، ومن تلك العادات تبادل اطباق السفرة الرمضانية التي يطاف بها على الجيران والاقربين”.