المدارس الأهلية في الموصل .. أرقام متصاعدة في ظل تدهور التعليم الحكومي

الموصل- ولاء الحمداني

في غرفة معاون مدير المدرسة كانت تنتظر السماح لها بالدخول الى غرفة المدير، مرت نصف ساعة  قدماها بدأتا تجذبان باهتزازهما انتباه الحاضرين، فيما كان صوت المدير يعلو بين حين وآخر وهو يتحدث عبر الهاتف وصدى ضحكته يملأ ارجاء المكان.

أم حسن، أربعينية كانت قد ادخلت أحد أبنائها الى مدرسة أهلية في الموصل، لكنها قررت نهاية العام الماضي ومع تعطل دوام المدارس بسبب جائحة كورونا، نقله منها الى مدرسة حكومية، لتخوض صراعا مع ادارة المدرسة الأهلية من أجل السماح لها بسحب وثائق ابنها حسن الى المدرسة الجديدة.

“ليش دفع فلوس عالخالي بلاش؟” تتساءل ام حسن بعد ان اخذت بضع رشفات من بطل الماء الذي تحمله. وتضيف “هاي ثالث مرة اجي بيها عالمدرسة واتعنى للتربية علمود أسحب اوراق ابني وكل مرة يطلعون بحجة شكل”.

في السنوات الأخيرة بدأ اهالي الموصل الميسورين، يرسلون أبناءهم الى المدارس الاهلية التي ازدادت اعدادها في المدينة بشكل ملحوظا بعد 2010 لتصل حتى نهاية عام 2020 الى 139 مدرسة بحسب مصدر في مديرية تربية نينوى.

وبدأت نسبة الطلبة الملتحقين بهذه المدارس تتزايد تدريجيا وسجلت بعض المدارس المعروفة أرقاما كبيرة بنسبة الطلبة المسجلين فيها كمدارس الأوائل ودار العلوم، الا ان هذه الاعداد شهدت انخفاضا العام الحالي نتيجة اعتماد نظام التعليم الالكتروني وتردي الوضع المادي لدى شرائح متعددة بفعل تراجع قيمة الدينار امام الدولار، وتداعيات جائحة كورونا التي اجتاحت العالم اواخر عام 2019 والتي اجبرت الدول على الاغلاق لفترات طويلة للحد من تفشي الفايروس، ما اوقف أو أضر بالنشاط الاقتصادي ومعه مدخولات الأفراد.

وأدى انتشار فايروس كورونا الى اغلاق المدارس والجامعات في العراق لأشهر طويلة خلال العام 2020 امتثالا للاجراءات الصحية، ما حدا بوزارتي التربية والتعليم العالي الى اعتماد نظام التعليم عن بعد لضمان استمرار المسيرة التعليمية والحفاظ في ذات الوقت على سلامة الطلاب.

وفي تشرين الثاني 2020 اعلنت وزارة التربية الاتحادية عن بدء العام الدراسي الجديد وبدأت المدارس بفتح ابوابها أمام طلاب المراحل المختلفة لكن ليوم واحد فقط لكل مرحلة في الاسبوع، مع التركيز على التعليم الالكتروني، وبفعل ذلك الاجراء انخفض عدد الطلاب في بعض المدارس الأهلية.

ام حسن تؤكد ذلك وتقول: “انا ما مستعدة ادفع اقساط مالية على دوام يوم واحد بالاسبوع”. ولهذا قررت ان تنقل ابنها الى مدرسة حكومية ليكمل فيها سنته الاعدادية الثانية في الفرع التطبيقي، لكنها تفاجأت بعد مضي شهر بتلقي انذار من قبل المدرسة الحكومية بفصل حسن ان لم يجلب “الوثائق المطلوبة” من مدرسته السابقة.

انهيار التعليم الحكومي

كان العراق يمتلك افضل نظام تعليمي بالمنطقة قبل حرب الخليج الاولى عام 1991 بحسب تقرير صادر عن منظمة اليونسكو، الا ان هذا النظام بدأ يتداعى في مطلع تسعينيات القرن المنصرم وصولا الى بداية الالفية الجديدة وغزو الولايات المتحدة للعراق ربيع عام 2003.

نتيجة لتلك الحرب والمعارك اللاحقة التي حصلت بسبب الصراعات الداخلية، تأثرت بشكل كبير البنى التحتية للبلاد، ودمرت او تضررت عدد كبير من المدارس، ولم يجر تعويضها في ظل تأثر الاقتصاد بتراجع اسعار النفط، كما منع الفساد وسرقة الأموال المخصصة لقطاع التعليم من بناء آلاف المدارس الجديدة لمواكبة زيادة عدد السكان، ما اثر سلبا على جودة ورصانة التعليم الحكومي.

“ذلك واقع لا أحد ينكره اليوم” يقول الستيني حسن عبدالله، وهو مدرس متقاعد من الموصل، مضيفا ان “البنية المدرسية تأثرت كثيرا بعد سنوات من الاهمال وقلة التخصيصات الحكومية، ومع تراجع مستوى الخريجين الجدد من الكليات الذي تسلموا مهمة تدريس الأجيال الجديدة وعدم حرص الكثيرين منهم على بذل كل امكاناتهم لتقديم المادة المطلوبة لطلابهم، اصبحت المدارس الحكومية في وضع سيء”.

ويتابع عبدالله :”هذا ما يدفع كل من يملك المال الى ارسال ابنائهم الى المدارس الاهلية خاصة في المراحل المتوسطة والاعدادية، والبعض يضطر للاستدانة من اجل تأمين اقساط مدرسة اهلية”.

يتفق ابو محمد (62 عاما) وهو موظف متقاعد، مع ذلك الرأي، مؤكدا انه يفضل ان يبقى ابنه “بلا تعليم” على ان يجعله ينتظم بمدرسة حكومية، متحدثا عن تجربته في احدى المدارس الحكومية التي كان ابنه الأصغر دائما ما يشتكي منها “ذهبت ذات يوم الى مدرسة ابني لأتفاجأ برؤية احد المعلمين ماسكاً “الصوندة” وهو يضرب الطلاب بها في ساحة المدرسة”.

هذا التصرف دفع ابو محمد لاعتراض المعلم ومحاولة منعه، الا ان الأخير صرخ بوجهه قائلا “وما شأنك … دعني اربيهم”.

على اثر تلك الحادثة قرر ابو محمد نقل ابنه الى مدرسة أهلية “تتعامل باسلوب تربوي وعلمي وإنساني مع الأطفال” وان كان ذلك القرار سيحمله مصاريف اضافية عليه ان يعمل جاهدا لتأمينها.

تؤيد سارة العبيدي، معلمة اللغة الانكليزية في احدى المدارس الاهلية قرار ابو محمد وتقول، ان المدارس الاهلية “تجبر كادرها على متابعة تصرفات التلاميذ ومراقبتهم حفاظا على سلامتهم، والطلاب فيها هم رأس مال المدرسة لذلك حمايتهم أساسية، والادارات تحرص على تأمين افضل التدريسيين لطلابها لضمان استمرار التحاق طلاب جدد بها”.

وتشير العبيدي الى جانب آخر من مسألة ارسال العوائل لأبنائهم الى المدارس الاهلية غير تلقي تعليم وتربية أفضل، مبينة ان “ما نسبته 75% من الاهالي مهتمون بأتيكيت ومظهر ابنائهم ويبحثون عن المظاهر الاجتماعية فيجدون في المدارس الخاصة فرصة في ذلك”.

ويقول خليل حلاوجي، مدير ثانوية الاوائل الاهلية للبنين، ان “ثقة الناس بالمدارس الأهلية ازدادت في السنوات الاخيرة والاهالي باتوا مطمئنين اكثر على مستقبل ابنائهم وسلامتهم فيها”، مبينا أن “الثقة تأتي من التجربة” اذ ان اولياء الامور المقبلين على تسجيل ابنائهم في مدارس خاصة يأتون لتلك المدرسة بعد سؤال أقاربهم ومعارفهم عن تجربة ابنائهم في تلك المدارس.

ويوضح:”بعض هذه المدارس تفسح المجال امام الاهالي لمعايشة وتجربة تلك المدرسة لبعض الوقت، ولا يسجلون ابناءهم الا بعد التأكد بأنفسهم من جودتها”.

تجارة … ام تعليم بجدارة؟

يقضي الطلاب وقتا اطول في المدارس الأهلية مقارنة بالحكومية، اذ تصل عدد ساعات الدوام فيها الى ست ساعات بينما جل ما يقضيه الطالب في المدارس الحكومية لا يتعدى الأربع ساعات يوميا في الظروف الاعتيادية.

وتقل عدد الساعات في المدارس الحكومية التي تعمل بنظام الوجبتين الصباحية والمسائية، ومدة الدرس الواحد تصل الى 35 دقيقة في احسن الحالات، وهي مدة “لا تكفي للتعليم” خاصة اذا كان الصف يضم أربعين طالب او أكثر، كما تقول شهد الطائي التي تعمل محاضرة في ثانوية للبنات.

وتصف شهد المناهج الحكومية بانها “مواد تلقينية لا تتيح للطالب الاستنباط والتفكير، ووقت الدرس غير كاف البتة لمواكبة المنهج الرسمي المقرر بشكل جيد وتفصيلي”.

في حين تعبر سارة العبيدي عن ارتياحها بشأن المناهج واوقات الدوام في المدرسة الخاصة التي تدرس فيها، وتصف الوضع “بالمختلف”، قائلة “اننا بالاضافة الى المنهج الحكومي المقرر نعتمد على مناهج اثرائية تزيد من ثقافة الطالب وتدفعه نحو الثراء الفكري”.

يوافقها الرأي خليل حلاوجي “مناهجنا الاثرائية والمهرجانات والمسابقات التي نقيمها تدفع الطلاب للتميز والابداع”. ويضيف “هذا لا يعني ان كل المدارس تتبع نفس النظام، فكما ان هناك بعض المدارس تتنافس فيما بينها لتقديم الافضل هناك مدارس اخرى همهما الكسب المادي فقط دونما اي اهتمام بالمستوى العلمي للطالب”.

أم احمد، ربة بيت، سعت جاهدة كي يقبل ابنها الذي لم يفلح باجتياز الثالث المتوسط لثلاثة اعوام متتالية، في احدى المدارس الاهلية لعله ينجح تقول “في ظل ظروف جائحة كورونا فان المدارس الحكومية والاهلية ساعدت طلابها على حد سواء امتثالا لأوامر التربية”. واضافت وهي تتكلم بانفعال “ابني لم يعبر الثالث المتوسط بعد اعادته للمرة الثالثة، وليس امامنا طريق غير الحاقه بمدرسة اهلية”.

قررت ام احمد نقل ابنها الى مدرسة اهليه “تضمن نجاحه” على حد تعبيرها، بعد فشل جميع المحاولات السابقة للعائلة لانجاح ابنها “لم يتبقى غير النجاح بفلوسنا” ليعبر الى المرحلة الاعدادية، في اشارة الى ان النجاح فيها أسهل.

وفي ظل نظام تعليمي يعاني من مشاكل عميقة، يقع العراق خارج التصنيفات العالمية لمؤشر جودة التعليم بعد ان كان يتقدم على دول اضحت تسبقه اليوم باشواط كبيرة، ففي الوقت الذي تفتخر فيه دول العالم بصروحها التعليمية لا زال جزء كبير من ابناء العراق يتلقون تعليمهم في المدارس الطينية او ذات الدوام الثلاثي، وجزء اخر اثقلت كاهلهم اجور الدراسة المبالغ فيها حين اضطروا لالحاق ابنائهم بالمدارس الخاصة لضمان تفوقهم.

وفي الوقت الذي تسعى فيه العوائل المتمكنة ماديا لتسجيل ابنائها في المدارس الاهلية التي تسجل نسب نجاح عالية سنويا تسعى جاهدة عوائل اخرى حجز مقاعد لابنائها في المدارس الحكومية الاشهر في المدينة والتي تنافس المدارس الاهلية بنسب تفوق طلابها سنويا كمدارس المتميزين والشرقية والموهوبين للبنين وقرطبة والاندلس للبنات.

الا ان تلك المدارس الحكومية المتميزة لها طاقة استيعابية محدودة فليس كل من يقدم اليها سيقبل فهناك محددات يتم اخذها بنظر الاعتبار عند قبول الطالب كالمعدل والرقعة الجغرافية واحيانا “الواسطة” بحسب روعة الدليمي الموظفة في مديرية التربية.

ام حسن التي اضطرت لنقل ابنها من المدرسة الخاصة بسبب عدم تحمل التكاليف في ظل الظروف الراهنة، تتعرض للمساومة وعدم تلبية طلبها بسحب وثيقة ابنها “عقابا لها” على نقل ولدها، تقول “سألجأ لمديرية التربية واتقدم بشكوى ان لم تستجب المدرسة لطلبي فهي الفيصل بيننا”.

تعليقا على ذلك يقول التربوي المتقاعد حسن احمد، نبه الى ان المدارس الأهلية يجب ان تكون صروح للتربية والتعليم وليس مجرد مشاريع تجارية تدر أرباح على اصحابها “طريقة التعامل هذه غريبة وتشير الى وجود ضعف في النظام التربوي يحتاج الى علاج والا فان معظم المدارس الأهلية سيصبح حالها حال المدارس الحكومية عاجزة عن تقديم أسس تربوية وتعليمية أفضل”.

ويتابع :”ربما هي قادرة على ضمان معدلات نجاح أعلى بوجود مساحة اهتمام أكبر من قبل التدريسيين والعاملين فيها بالطلاب، لكن بدون اعتماد مناهج متطورة ومتابعة وفرض اسس صارمة فانها في المستقبل لن تقدم مستوى علمي افضل، وسيصبح حالها كحال معظم الجامعات الأهلية التي تضمن نجاح سهل بدون تفوق علمي حقيقي”.

 

*انجز التقرير لصالح مشروع تمكين المرأة بالتعاون مع منظمة cfi وبدعم من شبكة نيريج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى