أربعون عاماً في سوق “جميلة”

الثالثة فجرًا في بغداد، ثمة عجوز تسير في الظلام، سواد عباءتها يجعلها قطعة من الفجر الذي حولها. ها هي تتجه إلى ركنٍ صغيرٍ اعتادته في “سوق جميلة”. ثمّة طاولات حديدية، ومعدات طبخٍ قديمةٍ مرصوفةٍ على الأرض بترتيبٍ وعناية. تقف بينها وتنهمك في العمل. هذا مطبخها في وسط السوق.
رزق الفقراء من الفقراء
قرابة أربعين عامًا، وأم علي (67 عامًا) تعد خبز السَيّاح في السوق، بدأت في الحرب العراقية الإيرانية لتعيل أطفالها بعد أن التحق زوجها بالجبهة. أصبحت أرملة ثم جاءت حروبٌ أخرى كثيرة وحصارٌ واجتياحٌ وانفجارات، وظلّت أم علي تقف في الزاوية نفسها من سوق جميلة الشعبي في مدينة الصدر شمال شرق بغداد تبيع خبز الفقراء هذا.
تقول “خلال حرب إيران أصبحت أحوالنا أصعب. لم أكن أدري ماذا أفعل، وفي طريقي نحو السوق لاحظت أن عمالًا يقفون دائمًا في طوابير كبيرة ينتظرون أرزاقهم، فكرت بصغاري وبهم”.
يمكن القول إن أم علي ابتكرت هذه المهنة، إذ تكاد هذه الأكلة اليوم أن تكون منسيّة في مناطق العراق كافة، باستثناء الجنوبية منها، إذ يقتصر صنع خبز السيّاح على البيوت، وليس هناك مخابز أو محال تبيعه مثل باقي أنواع الخبز في العراق من العادي إلى التفتوني والعباس والرقاق والصمون…إلخ. لكن أم علي كان لها وجهة نظرٍ أخرى، إذ حولته لمصدر رزقٍ لها ولعائلتها، وخرقت عادة احتكار خَبْزه على ربّات البيوت في الجنوب.
وقوف العمّال بهذه الصورة مشهدٌ مألوفٌ، حيث يتجمعون في زاويةٍ محددةٍ يوميًا منذ ساعات الفجر الأولى، قادمين من محافظات ثانية نحو العاصمة، بحثًا عن العمل. عشرات ينتظرون أي مقاول يختار مجموعة منهم لأعمالٍ تتطلب قوةً وجهدًا كبيرين مثل البناء.
“لا غنى لهم عن خبز السَيّاح” تقول أم علي. “كيف يقدرون على العمل لأكثر من 15 ساعة متواصلة في البناء، أو حتى الانتظار الصعب لأحدٍ يطلبهم للعمل. أحسستُ أن الخيار الجيد لي ولهم أيضًا هو السيّاح، يسد جوعهم وكلفته قليلةٌ عليّ”.
يعتبر السَيّاح أو خبز “التمّن” من الأكلات التي يجهلها كثيرٌ من العراقيين أنفسهم، إذ يعدّ جنوب العراق موطنه الأصلي، الأهوار بالتحديد. وتعتبر مقاديره سهلةً للغاية، إذ يتكوّن من دقيق الأرز، ولا يحتاج لغير الماء لصناعته ثم خبزه وتناوله ساخناً، مع البيض بالبصل حصرًا، أو القيمر البلدي المصنوع من حليب الجاموس.