7 ملايين قطعة سلاح وضحايا بالمئات: أسلحة العشائر أعلى صوتاً من أجهزة الدولة وقوانينها

علي غزوان- الناصرية

ظل جرس الهاتف يرن بينما كانت (ف.ع) (19 عاماً) داخل غرفة القياس بمحل خاص ببيع الفساتين، تحاول اختيار فستان يليق بزفافها من “فتى أحلامها”، ولم تكن تعلم أن “العرس” الذي ظلت تنتظره لسنوات سيتحول إثر رصاصة قاتلة إلى “مأتم”.

فور خروجها سارعت (ف.ع) لإلتقاط هاتفها من يد شقيقتها، ظناً منها أن المتصل هو خطيبها علي، لكنها فوجئت بصوت غليظ ممزوج بعبرات البكاء، لم تفهم منه إلا عبارة: “الله يصبرچ بنيتي. علاوي مات”، حتى غشي عليها وهوت أرضاً.

لم تَفِق الفتاة التي زف خطيبها من البصرة إلى مقبرة وادي السلام بمحافظة النجف، إلا داخل مستشفى البصرة التعليمي لتتأكد أنها لم تكن تحلم، وما سمعته على الطرف الثاني من الهاتف، كان صوت عمها الذي أخبرها بوفاة خطيبها جراء رصاصة طائشة اثر نزاع عشائري.

ويشهد العراق وبشكل خاص محافظاته الجنوبية مئات الصدامات العشائرية المسلحة سنويا، يسقط فيها عشرات القتلى، فقد شهدت البصرة وحدها أكثر من 200 نزاع مسلح خلال عام ونصف تسبب بمقتل واصابة أكثر من 300 شخص، وفق مصدر امني. كما صدرت قرابة 5 الاف مذكرة قبض بحق مفتعلي النزاعات العشائرية.

في نهار صيفي لاهب كان علي عبد الحسين المالكي ذو الـ21 ربيعاً، يقف أمام منزله الكائن في منطقة الخمسة ميل وسط مدينة البصرة جنوبي البلاد، وهو يحاول إصلاح سيارة والده، قبل أن يصرع أرضاً حين اصابته رصاصة واحدة من سيل من الرصاص اطلق خلال نزاع عشائري وقع قرب المكان.

يروي عبد الحسين المالكي، والد الضحية، الحادثة كما لو أنها وقعت اليوم، ويقول منفعلاً: “قتلوا ولدي وهو في عز شبابه. طلقة استقرت في صدره قبل سبعة أيام من موعد زفافه”.

ويكمل: “سقط ابني أمامي ومن هول المشهد لم أشعر بشيء وأغمي علي. الجيران نقلوه إلى المستشفى من أجل إسعافه”، ويستدرك قائلًا قبل أن تنهمر الدموع من عينيه: “لكنه توفي في الطريق”.

ويلقي الأب المكلوم كما بقية أفراد عائلته باللائمة على الحكومة التي يرى أنها تتحمل مسؤولية وفاة ولده بسبب فشلها في الحد من انتشار واستخدام السلاح في النزاعات العشائرية التي باتت ظاهرة تتسع حتى خرجت عن سيطرة القوات الأمنية.

حضور دائم للسلاح

واستفحلت النزاعات العشائرية في غالبية محافظات البلاد خاصة الجنوبية والوسطى منها، في العقدين الأخيرين في ظل ضعف اداء الأجهزة الأمنية وعجزها عن مواجهة انتشار السلاح واستخدامه في الصراعات وحتى المناسبات سواء في المآتم او الافراح والتي يذهب ضحيتها في أحيان كثيرة مدنيون ليسوا طرفا في الأمر بين قتيلٍ وجريح.

ويصف المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، النزاعات العشائرية بأنها من أخطر عوامل تهديد السلم المجتمعي، كاشفا عن صدور أوامر ملزمة من القائد العام للقوات المسلحة بنزع أسلحة جميع المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية واعتقال مرتكبيها والتعامل معها بحزم .

ووفقاً للمحنا فقد تم “ضبط ما يقارب 7 الاف قطعة سلاح متوسط وخفيف خلال الفترة القريبة الماضية”، الى جانب اعتقال أكثر من 270 متورطاً بالنزاعات العشائرية في محافظتي البصرة وذي قار خلال العام 2021 وحده.

ومع تشديد الاجراءات الحكومية لمواجهة اتساع الصراعات العشائرية ودخول اسلحة متنوعة فيها، يقول المحنا: “تم اعتقال نحو 360 شخصا متورطا خلال الأشهر الأولى من العام 2022 في مدن مختلفة من البلاد، ومستمرون في عمليات التفتيش لمصادرة الاسلحة الخفيفة والمتوسطة واعتقال المتورطين”.

ويرى المحنا ان حيازة السلاح جزء من ثقافة المجتمع العراقي وساهمت “الحروب وعسكرة المجتمع” بشكل كبير في ترسيخ هذه الثقافة”، مبينا أن “هناك مخازن كبيرة للاسلحة تم التجاوز عليها في فترات معينة وتسريبها للأهالي”، ما جعل السلاح متوفرا على نطاق واسع.

وفي منتصف آب اغسطس 2022 أعلنت قيادة فرقة الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية، عن إنهاء 787 نزاع عشائري في محافظة ميسان وحدها. وأشارت الى وجود لجنة شكلت لحل النزاعات العشائرية تتألف من وجهاء المنطقة والشيوخ وقائد فرقة الرد السريع.

ناشطون مدنيون يتابعون تلك النزاعات، يقولون ان هذه الأرقام هي جزء صغير من النزاعات التي تحصل وان الحكومة شبه غائبة واجراءاتها ضعيفة. ويؤكد الناسط علي عباس ان غالبية المواجهات المسلحة للعشائر الكبيرة لا تصل الى مراكز الشرطة، والحكومة تبقى متفرجة، كما ان النزاعات الصغيرة التي لا يسقط فيها ضحايا تظل منسية.

ووفقاً لمصادر أمنية رفيعة في وزارة الداخلية، هناك 7 ملايين و600 الف قطعة سلاح بيد المدنيين في العراق، كاشفًة عن تسجيل 321 نزاعاً عشائرياً مسلحاً، في المحافظات الجنوبية الثلاثة” البصرة- ميسان- الناصرية” في العام 2020 فقط، كانت حصة محافظة البصرة منها  140 نزاعاً راح ضحيتها 41 شخصًا و 105 جريحا.

وبحسب ذات المصادر تتنوع الأسلحة التي استخدمت في النزاعات ما بين سلاح الكلاشنكوف الخفيف وbkc المتوسط الذي يحمل على السيارات، وفي نزاعات أخرى استخدمت قاذفات RPG 7 المضادة للدروع.

التهديد بالسلاح

ما بين النزاعات الثأرية بين العشائر نتيجة خلافات اجتماعية او حوادث عرضية، والنزاعات حول ملكية الأراضي الزراعية او تلك التي تعمل فيها الشركات النفطية وبالتالي الخلاف على مبالغ التعويضات التي تدفعها تلك الشركات للمتضررين من مشاريعها وحتى فرص العمل التي توفرها، تختلف أسباب النزاعات العشائرية في العراق لكن دائما تظهر الاسلحة فيتم استخدامها أحيانا او التهديد بها أحيانا أخر.

الشيخ صادق نصيف شيخ عام قبيلة بني لام، يقول إن “محافظتي البصرة وميسان تعانيان نزاعات عشائرية متكررة، لأسباب مختلفة بعضها يرتبط بقضايا تتعلق بملكية الأراضي الزراعية والحصص المائية الخاصة بالسقي، أو مشاكل مادية أو اجتماعية أو ثأر قديم”.

والى جانب تلك النزاعات برزت في السنوات الماضية “محاولات بعض العشائر فرض  سطوتها على الشركات النفطية الموجودة في أراضيها في محاولة منها لانتزاع اكبر قدر ممكن من التعويضات المالية من تلك الشركات”.

ويوضح أن تلك النزاعات تتحول الى اشتباكات مسلحة تستمر احيانا ساعات أو أيام بشكل متقطع وتستخدم فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، في ظل عجز الدولة هناك على فرض الأمن بشكل تام لضعف سلطتها وغياب فرض القانون”.

ووفقا لقرار مجلس الوزراء العراقي المرقم 149 لسنة 2011 يتم تعويض الأضرار التي تسببها الشركات النفطية، وإخلاء الأراضي الزراعية لغرض استمرار عمل شركات التراخيض النفطية. وتقوم وزارة النفط العراقية بتعوض المزارعين المتضررين مالياً من عمل تلك الشركات، والإضرار الناجمة عن عملها.

وبحسب الاستراتيجية التي تتبناها وزارة النفط في هيمنتها على الأراضي الزراعية، بموجب قانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم 84 لعام 1985، لها الحق بمصادرة الأراضي الزراعية لتنفيذ مشاريع نفطية بعد تعويض أصحابها بمبالغ مالية، وتطلق الوزارة على هذه الأراضي تسمية “محرمات نفطية”.

العشائر في مواجهة الشركات

مع تحويلها الى محرمات نفطية، تكسب تلك الأراضي وبعضها لا يصلح للزراعة ولا الرعي، أهمية كبيرة وتتحول ملكيتها الى محل صراع بين العشائر التي كانت تستثمرها او تسكن فيها وأحيانا تقوم عشائر بفرض مطالب خاصة للموافقة على استثمار الشركات النفطية لتلك الأرضي.

وهو ما حصل في 22 تشرين الثاني 2019 حين أقدمت عشيرة “بيت وافي” المعروفة بنفوذها في محافظة البصرة، على إغلاق مداخل حقل مجنون النفطي شرقي البصرة والمستثمر من قبل شركة (سي. بي. إي. سي. سي) الصينية وشركة “بتروفاك” البريطانية مطالبة بتعويضات مالية مقابل موافقتها على عمل تلك الشركات، وعادت العشيرة ذاتها بعدها بنحو عام (تشرين الأول أكتوبر 2020) الى التظاهر المسلح وقطعت الطرق المؤدية إلى الحقل، ومنعت العاملين من الوصول إليه، قبل الموافقة على توفير فرص عمل لأبنائهم الذين يعانون من البطالة، وهو ما أثر على عمل الشركات في الحقل لعدة ايام.

وفي 18 تشرين الاول اكتوبر 2020 هددت شركة بتروناس الماليزية بمغادرة حقل الغراف النفطي في ذي قار، في أعقاب توترات مع عشائر تسكن بالقرب من الحقل، كانت تطالب بوظائف لأبنائها، حسبما يقول رئيس لجنة الطاقة في مجلس محافظة ذي قار المنحل يحيى المشرفاوي، الذي كشف أيضا عن تعرض شركة cpecc الصينية العاملة في تطوير الانتاج النفطي في حقل الغراف إلى “إطلاق نار متكرر في 17 آذار 2017 استهدف الآليات العاملة ضمن مفاصل الشركة المذكورة في منطقة عشائر الشويلات”.

وتخلف النزاعات العشائرية في بعض الاحيان اضرار بالبنية التحتية، ففي 18 آب أغسطس اعلنت وزارة الكهرباء عن خروج أحد خطوط نقل الطاقة جنوبي البلاد عن الخدمة، بسبب نزاع عشائري، وذكرت ان خط (هارثة/قرنه 400 kv) شمال البصرة تعرض لعيارات نارية ما أدى الى تقطع اسلاك الخط الناقل وتسبب بإنفصال خطوط المنطقة الجنوبية، وكاد الاستهداف ان يتسبب بإطفاء تام للكهرباء. وبينت الوزارة أن “خطوط نقل الطاقة الكهربائية تتعرض للضرر بشكل مستمر في المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية خاصة مناطق شمال محافظة البصرة”.

وتعهد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في 2 تموز 2020 باتخاذ إجراءات رادعة لمعاقبة وملاحقة الأطراف التي تقف وراء تهديد وابتزاز الشركات الأجنبية، مبيناً خلال لقائه مع عدد من المستثمرين إن قطاع الاستثمار يواجه الكثير من العراقيل التي تحول دون تقدمه وبينها تهديدات العشائر للشركات.

وعلى الرغم من التعهدات التي اطلقها رئيس الوزراء في حماية المستثمرين والشركات الأجنبية، أصدرت جماعة عرفت نفسها بـــ” أصحاب الكهف” وهي ميليشيا مسلحة موالية لإيران، بياناً في 27 تشرين الأول 2020، دعت فيه العراقيين إلى الإبلاغ عن أي معلومات بشأن وجود مستثمرين أو خبراء اقتصاديين من دول تعتبر منافسة لإيران، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، مقابل مبالغ تتراوح بين 20 ألف دولار إلى 50 ألف دولار.  ويأتي هذا البيان اغتيال قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني وابو مهدي المهندس بعملية جوية أمريكية

صراعات عشائرية بلباس سياسي

وتشجع الأعراف العشائرية على حمل السلاح منذ القدم، كوسيلة للمباهاة بالقوة او لمواجهة الخصوم والمنافسين، لكن في فترات قوة الدولة كانت الأسلحة تختفي داخل بيوت زعماء العشائر وفي مضايفهم ولا تظهر للعلن. اما في فترات ضعف الدولة او حاجة الحكومات الى العشائر لتحقيق غايات معينة فكان يتم تسليح العشائر وتظهر أسلحتهم حينها بقوة في المناسبات ويجري حملها على نطاق واسع.

ووفقا لما يقوله محمد الزيداوي وهو أحد شيوخ العشائر من محافظة البصرة فإن الكتل السياسية والأحزاب لديها أدوات عشائرية تفتعل بعض النزاعات لأهداف محددة كإثارة الشارع اتجاه ملفات وتحقيق غايات سياسية، موضحاً بان أغلب الفصائل المسلحة تستغل أبناء العشائر المنتمين الى صفوفها بدفعهم الى تخزين مختلف انواع الاسلحة في محاولة لابعادها عن انظار السلطات الأمنية واستغلالها لأهداف خاصة. لكن تلك الأسلحة تجد طريقها للاستخدام في أي نزاع عشائري يقع.

من جهته، يتهم الزيداوي الذي عمل مستشارا لمحافظ البصرة لشؤون العشائر سابقاً، بعض الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة، بالوقوف وراء سماسرة يعملون في مجال تهريب الأسلحة وبيعها لأبناء العشائر، كون تجارة السلاح واحدة من أبواب إيرادات تلك الأحزاب. وهي تروج بذلك لحمل السلاح وتخزينه.

وتمكنت الأحزاب السياسية العراقية التي تشكلت، بعد العام 2003، من استغلال عادات واعراف العشائر واستثمارها في توطيد سلطتها، سواء عن طريق الاستفادة منها في الانتخابات أو عن طريق الهيمنة السياسية والاجتماعية المباشرة باللجوء الى قوتها، فتحولت العشيرة من بنية يجمعها رابط النسب والدم إلى بنية سياسية اقتصادية مؤطرة بنزعة دينية أو طائفية.

ومع التناغم بين الاحزاب وبعض العشائر والمصالح التي جمعتها، حصل انتشار هائل للسلاح لدى العشائر، ولم يعد يخلو بيت في منطقة عشائرية من سلاح، ما حولها إلى قوة منافسة لمؤسسات الدولة الأمنية بل متسلطة عليها في حالات كثيرة، بحسب الزيداوي.

وفيما يشدد الزيداوي على ضرورة السيطرة على الحدود مع بعض الدول المجاورة التي يتم عبرها توريد الاعتدة والاسلحة بعمليات تهريب، يقول إن “البصرة سجلت في مطلع العام 2019 ولغاية منتصف العام 2021، أكثر من 200 نزاع مسلح قتل على أثره 43 مواطناً وأصيب ما يقارب 277 آخرين، كما صدرت قرابة 5 الاف مذكرة قبض بحق مفتعلي النزاعات العشائرية وفق المادة 4 إرهاب”.

منافذ توريد الاسلحة

وفقا لرئيس رابطة العشائر العراقية، محمد الجابري، فان غالبية الأسلحة التي تمتلكها العشائر اليوم تعود إلى النظام السابق وكذلك إلى إيران على اعتبار ان الكثير من الأسلحة تدفقت وبشكل كبير من إيران باتجاه العراق من خلال الممرات الجنوبية إبان الحرب ضد داعش”.

وزاد “عندما سقطت النظام في العام 2003 استحوذت العشائر على الأسلحة المتوسطة والثقيلة التي كانت تابعة للجيش العراقي من المعسكرات والمقرات التي تركت، وفي السنوات اللاحقة كانت الاسلحة منتشرة في أسواق سوداء مختصة ببيعها والتي من الصعب السيطرة عليها”.

وعن مصادر التسليح الأخرى للعشائر يقول الجابري، إن “الكثير من العشائر استطاعت تعزيز تسليحها عبر تهريب السلاح من المحافظات والمناطق التي شهدت معارك مع تنظيم داعش الإرهابي، إلى المناطق الجنوبية، وكان يتم الحصول عليها بأسعار زهيدة بعد هزيمة التنظيم” وهذا مكن العشائر من امتلاك ترسانة أسلحة تلجأ اليها باستمرار في أي نزاع ينشب مع عشائر منافسة ولأي سبب كان.

اسلحة جديدة تغير قواعد الاشتباك

قواعد الاشتباك لدى العشائر المتنازعة فيما بينها، تغيرت في السنوات الأخيرة بدخول الأسلحة المتوسطة وحتى الثقيلة احيانا، بعد ان كانت الاشتباكات تحصل طوال سنوات بالأسلحة الخفيفة كالكلاشيكوف.

وحصلت انتقالة جديدة وخطرة في قواعد الاشتباك مؤخرا، بحسب الخبير الأمني أحمد الشريفي، إذ استخدمت في بعض النزاعات العشائرية في مناطق شمالي البصرة (الغنية بالنفط)، طائرات مسيرة (للمراقبة والرصد وتحديد الأهداف) وصواريخ كاتيوشا لالحاق الضرر الأكبر بالطرف الأخر.

وتنتشر أسواق بيع الأسلحة في كل المحافظات العراقية بما فيها اقليم كردستان، بعض تلك الأسواق علنية وتعرض موجوداتها من أسلحة واعتدة في محلات خاصة وبعض الاسواق سرية تخفي ما تبيعه، فيما تجري الكثير من عمليات البيع والشراء عبر تجار ووسطاء يتواصلون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كما في سوق “مريدي” الشهير في بغداد وسوق “الاسلحة” في محافظة ذي قار جنوبي البلاد

وكشف الشريفي عن اختلاف أسباب اللجوء للسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل من قبل العشائر، قائلا ان الأمر يتعلق أحيانا بصراع كبير على النفوذ في المناطق الغنية بالنفط والسيطرة عليها من أجل ابتزاز الشركات العاملة فيها، وأحيانا بخلافات مالية نتيجة مضاربات، او بخلافات حول أمور تافهة بسبب تعليق على مواقع التواصل الاجتماعي او خلاف بين اطفال عائلتين”.

وتسجل في المحافظات الجنوبية الثلاث، البصرة وميسان وذي قار، غالبية النزاعات المسلحة، التي حددها مصدر نيابي بـ 321 نزاعا خلال عام 2020 بينها 140 في البصرة.

وسجلت محافظة ذي قار عام 2021 أكثر من 50 نزاعا عشائريا مسلحاً، كما سجلت خلال النصف الأول من العام الحالي أكثر من 30 نزاعا، بينها تعرض ضابط في الجيش برتبة عميد في 21 نيسان 2022، إلى إطلاق نار بواسطة سلاح قناص أدى إلى وفاته في الحال، خلال محاولته لإيقاف نزاع عشائري بين عشيرتين شمال شرق الناصرية، تخللها أيضا حرق منازل ومضايف ومقتل عدة أشخاص.

بالمقابل، سجلت محافظة ميسان في الأشهر الاولى من العام 2022 نحو 13 نزاعا عشائريا استخدمت فيها الأسلحة، من بينها نزاع عشائري طاحن مطلع نيسان 2022، بين عشيرتين في ناحية العزير جنوبي المحافظة، خلف 8 قتلى وجرحى، وهو الأعنف حتى الآن.

وفي بغداد، مصدر القرار السياسي في العراق، سجلت القوات الأمنية 11 نزاعا عشائريا مسلحا منذ مطلع العام الحالي وحتى شهر أيار الماضي، سقط على أثره 35 شخصا بين قتيل وجريح.

وعلى الرغم من الخروقات الأمنية وتكرر لجوء العشائر الى السلاح لمواجهة بعضها خاصة في بعض المحافظات كالبصرة، يؤكد قائد عمليات البصرة اللواء الركن علي الماجدي “انخفاض وتيرة النزاعات العشائرية المسلحة في المحافظة خلال الفترة الأخيرة”.

وفي الوقت الذي يبين فيه إحكام السيطرة الامنية في أغلب المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية متكررة، يقول إن “الأجهزة الأمنية في المحافظة مستمرة في ملاحقة واعتقال المتورطين في تلك النزاعات حيث اعتقلت أكثر من 1000 شخص خلال الأشهر الأولى من العام 2022”.

ناشط من البصرة رفض الاشارة الى اسمه، علق على رقم الـ 1000 معتقل بسبب النزاعات العشائرية في محافظته، قائلا ان ذلك الرقم كما الوقائع على الأرض تؤكد حجم النزاعات والى أي مدى أصبحت العشائر تستسهل اللجوء الى الأسلحة لمواجهة بعضها البعض حتى في الخلافات العادية.

ويرجع الناشط السبب الى تراجع السلطة الامنية للدولة وعدم خشية رجال العشائر من تطبيق القانون عليهم. ويضيف “السلاح منتشر في كل مكان، ونحن صرنا نحذر أبناءنا وأصدقاءنا وأهلنا من مغبة الدخول في أي جدل او خلاف مع أي شخص خوفا من تحوله الى نزاع مسلح”.

ولا يخفِ قائد قوات فرقة الرد السريع، الفريق ثامر محمد، مخاوفه من تطور النزاعات العشائرية من خلال استخدام الاسلحة المتوسطة والثقيلة، مبينا، إن “النزاعات العشائرية تطورت مع وجود الاسلحة وسهولة الحصول عليها، وما يترتب على ذلك من اثار سلبية على الأمن المجتمعي”.

وفيما يطالب الفريق محمد، القضاء بـ”مساندة المنتسبين والضباط في تنفيذ الواجبات على اعتبار ان بعض العشائر تحاول التأثير على القرار الأمني بطريقة وأخرى”، كشف عن عثور قواته في محافظة ميسان مطلع العام 2022، على كدس أعتدة تابع لأحدى العشائر كان يضم اسلحة خفيفة ومتوسط وثقيلة وكذلك الغام أرضية”.

واطلع معد التقرير على دراسة لقسم شؤون العشائر في وزارة الداخلية، قسمت أسباب ارتفاع وتيرة النزاعات العشائرية إلى ثلاثة محاور، الأول هو السلاح المنفلت والذي تعمل الجهات الامنية على حصره بيد الدولة، والثاني يتعلق بمحاولة اللاستحواذ على الاراضي الزراعية وتحويلها الى نفطية، والآخر هو انتشار تجارة المخدرات التي تدر أرباح كبيرة وتتسبب بنزاعات بين افراد العشيرة الواحدة.

نواب يلجؤون لسلاح عشائرهم

لا ينحصر اللجوء الى العشيرة وسلاحها بالمواطنين بل بات يشمل العديد من المسؤولين في الدولة بل وحتى اعضاء مجلس النواب، الذين يعتمدون على عشائرهم لمواجهة المشاكل او المخاطر التي تتهددهم.

في آخر لجوء الى العشيرة تجمع العشرات من أبناء عشيرة النائب المستقل باسم خشان، وهو محامي يؤكد دعمه لقوة الدولة والقانون، عقب اعلانه عن تعرضه لهجوم مسلح من اشخاص تابعين للتيار الصدري.

ويعرف عن خشان انتقاده للتيار الصدري، وكتب محذرا من لجوء التيار للضغط على القضاء لحل البرلمان. لكنه بدوره بدل ان يلجأ الى القانون عقب تعرضه للاعتداء توجه لعشيرته.

وتجمع مسلحون وهم يطلقون هتافات أمام “مضيف” عشائري في محافظة المثنى، بعد ان دعت عشيرة النائب أبنائها على التجمع مع “حمل السلاح” في استعراض للقوة ولتأكيد جاهزيتها للرد على أي طرف “يعتدي” على ابنها. وعادة ما ترافق هذا الاستعراضات عمليات اطلاق نار كثيف. ويتطور الامر أحيانا الى مواجهات مع الطرف الآخر.

دعوات للسيطرة على السلاح المنفلت

يشدد عضو لجنة حل النزاعات العشائرية في ميسان عيسى الناجي، على ضرورة انهاء ظاهرة اللجوء للأسلحة لفض النزاعات العشائرية عبر تقوية حضور الأجهزة الأمنية وسلطة القانون.

ويرى إن “قوة الشرطة والأجهزة الأمنية تأتي من قوة الدولة ويجب أن تقف جميع الأحزاب كما السياسيين مع الدولة لمساعدتها على بسط الأمن والقضاء على النزاعات العشائرية التي خلفت المئات من القتلى والجرحى”.

ويدعو عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية السابق، كاطع الركابي، الحكومة العراقية الى إعداد استراتيجية جديدة، للسيطرة على سلاح العشائر المنفلت ونزعه باي طريقة كانت كاشفا عن امتلاك بعضها لطائرات الدرون التي ربما تستخدم في الدكات العشائرية.

وتابع:”منذ وقت طويل ونحن ننادي ونشدد بضرورة أن لا تكون العشيرة بديل عن القانون بأي حال من الأحوال بل داعمة للقانون وتطبيقه”.

في تشرين الثاني نوفمبر 2018 ومع تزايد النزاعات العشائرية، تحركت السلطة القضائية بدعم من وزارة الداخلية لتشديد العقوبات فعدت “الدكات العشائرية” من الجرائم الإرهابية. وأكد مجلس القضاء الأعلى أن المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أُقر في عام 2005 تنص على أن التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يعد من الأفعال الإرهابية.

ولم تتمكن سبع حكومات متعاقبة بعد تغيير النظام في العام 2003 من تنفيذ وعودها بتطبيق مشروع حصر السلاح بيد الدولة، هذه العقدة التي باتت تمثل أخطر الملفات التي تواجهها الحكومات العراقية وستشكل تحديا للحكومة المقبلة في بلد تباع فيه الأسلحة بالسوق السوداء منذ العام 2003، حسبما يقول الركابي.

من جهته يعتقد المحلل العسكري فاضل أبو رغيف بأهمية إعادة العمل بقرار حكومي سابق يقضي بشراء الأسلحة بأسعار تنافسية من أجل سحبها من الأهالي والعشائر، داعياً إلى “محاسبة كل من يثبت بالدليل امتلاكه ترسانة أسلحة متوسط وخفيفة بغض النظر عن مكانته الاجتماعية والحزبية”.

وتابع “السلاح المنفلت الذي فاقم ظاهرة النزاعات العشائرية، يحتاج إلى معالجات اجتماعية وأمنية، كتحميل قيادات العمليات والشرطة في المحافظات التي تسجل فيها نزاع عشائري مسؤولية ذلك، واذا ثبت وجود ظاهرة الاستعراض بالسلاح في مجالس العزاء أو المناسبات الاجتماعية، تتحمل تلك القيادات المسؤولية بالإضافة الى شيخ العشيرة”.

ودعا ابو رغيف وزارة الداخلية الى “إعادة النظر في جميع مكاتب بيع الأسلحة المرخصة والغائها وتجميد العمل بمختلف هويات حمل وحيازة السلاح الممنوحة للمواطنين لأنها تشكل تهديدا للأمن المجتمعي والسلم الأهلي”.

بينما تشدد الجهات الحكومية على قوة اجراءاتها للسيطرة على النزاعات، انتشر فيديو لأشخاص يرتدون اللثام يعلنون عن تشكيل فصيل عشائري مسلح لمواجهة عشائر أخرى في منطقة ابي صيدا بمحافظة ديالى.

وتشهد ناحية أبي صيدا منذ سنوات نزاعات عشائرية كبيرة أدت الى تقسيم المنطقة الى ما يشبه القواطع التي تحكمها عشائر. وتلك النزاعات التي خلفت ضحايا تسببت بنزوح مئات العائلات، وتزايدت حالات طلب موظفين نقلهم الى مناطق أخرى.

يعلق الناشط علي عباس على ذلك بالقول “مع الحديث عن عودة داعش لنشاطه السابق، وفي ظل حقيقة ضعف الحكومة وسطوة المليشيات التابعة لأحزاب، وحاجة اطراف الصراع الشيعي الحالية لتأييد العشائر، فان قوة العشائر ستبرز بشكل أكبر”.

ويردد بلغة ساخرة وهو يبتسم:”بعد أشهر ربما سنجد ان كل عشيرة تعلن عن فصيل مسلح خاص بها لفرض نفسها وضمان امتيازاتها وحماية مكتسباتها”.

انجز التقرير بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى