“المعبرجي”: مهنة كادت تختفي.. وعادت بفضل الزحام المروري
بغداد- فاطمة كريم
ما أن تشرق أولى خيوط الشمس على مدينة بغداد حتى يذهب علي الصفار أو “أبو يحيى” كما يناديه زملاؤه إلى مكان عملة لينقل الناس بزورقه الصغير من جانب الكرخ الى جانب الرصافة.
يقول الرجل السبعيني بينما يقود المركب قاطعاً نهر دجلة عند جسر الشهداء الذي يربط منطقة الشواكة مع شارع المتنبي في الجانب الآخر: “معظم الناس تفضل العبور بالزوارق بدلاً من السيارات لتتخلص من الازدحام المروري لا سيما الطلاب والموظفين فبينما تقف السيارة نصف ساعة على الجسر تجتاز الزوارق المسافة ذاتها بدقائق معدودة”.
يعود أصل مهنة “المعبرجية” الى مئآت السنين قبل اختراع السيارات والدراجات وحتى قبل تشييد الجسور ووسائط النقل الأخرى، اذا اشتهر البغداديون باستخدام الزوارق الخشبية الصغيرة لعبور نهر دجلة بين صوبي الكرخ والرصافة، واليوم لا تتعدى المساحة المخصصة لعمل أصحاب الزوارق أربعة جسور هي جسر باب المعظم وجسر لشهداء وجسر الاحرار وجسر السنك ولا يستطيعون ممارسة عملهم خارج هذه المساحة.
يسع زورق العم أبو يحيى عشرة اشخاص كحد أقصى ولا يسمح “المعبرجي” بركوب اشخاص أكثر بل يرسلهم الى زورق أحد زملائه كي يحافظ القارب توازنه، اما الأجرة فلا تتعدى (500) دينار عراقي.
يقول العم أبو يحيى “كانت مهنتنا منتعشة اقتصاديا قبل عام 2003، لكنها شارفت على الانقراض منذ سنوات، ثم عادت وأحيتها الزحامات المرورية مجدداً، فلولا اكتظاظ الجسور بالسيارات ماكان الناس ليستخدموا الزوارق لعبور النهر”.
امتهن هذا الرجل نقل الناس بين صوبي بغداد منذ عام 1961 وكان قبلها يساعد والده في صيد السمك وصناعة الزوارق. يتذكر بداياته بابتسامة قائلاً: “أول بلم (قارب) امتلكته كان من صناعة والدي وكنت أساعده في الصيد ثم نقلت الناس لاحقاً”.
وزارة النقل وضعت شروط عدة للعمل في هذه المهنة أولها أن يمتلك الشخص زورقاً وأن تتوفر لديه إجراءات السلامة من نجّادات وصندوق إسعافات أولية وان يجيد السباحة، كما منعت الأطفال من ممارسة هذه المهنة.
وتقوم كوادر تابعة لوزارة النقل بحملات تفتيش في أوقات معينة، كما تمتلك الوزارة مجموعة من الزوارق الخاصة بالحماية والدفاع في حال وقوع حوادث غرق أو نشوب حرائق.
حامد سامي أحد أصدقاء أبو يحيى رجل في سنّ الثانية والخمسين من عمره يعمل في النقل النهري منذ عام 1991. يقول حامد “أنا أعمل في الجهة المقابلة من الضفة الثانية ودائماً ما نتمازح أنا والعم أبو يحيى ونتنافس في الحصول على الزبائن”.
ويطلق على كل نقطة ينطلق منها الزورق تسمية “الشريعة” و يوجد في كل ضفة عدد من الشريعات وعلى كل واحدة منها عمال محددون، فلا يمكن تجاوز أصحاب شريعة على الأخرى.
و”الشريعة” عند أهل بغداد هي المكان الذي تنحدر منه المياه ويكون على شكل مدرجات من الأعلى إلى لأسفل وهو كذلك الطريق الذي يسلكه الزبائن للنزول إلى الاسفل وتتجمع حوله زوارق المعبرجية، والمسافة بين شريعة وأخرى تصل الى (300) متر.
كثيراً ما تورث مهنة المعبرجي من الأب للإبن، وهذا ما حصل مع حامد الذي يساعده ولده محمد في نقل الزبائن بين الضفتين.
يقول حامد: “لقد كبرت في العمر ولم تعد لدي القوة الكافية لممارسة العمل لوقت طويل لذلك يساعدني ابني محمد وابن اختي عمر في العمل”.
أما الابن محمد الذي يدرس في كلية العلوم التقنية ويعمل إلى جانب والده في النقل النهري فيقول “منذ طفولتي وأنا أرافق والدي إلى مكان عملة وبعدما كبرت أصبحت أعمل معه لتوفير مصاريف دراستي الجامعية”.
رغم ظروف المعبرجية الصعبة جداً وتعب السنين الواضح في وجوههم إلا أن روحهم مفعمة بحب الحياة.
فالعم ابو يحيى الأقدم بينهم وهو بمثابة الأب يحبه ويحترمه الجميع، وفي موقف طريف يحاول العم سرقة الزبون من أمام شريعتهم ليذهب به إلى الضفة الاخرى ثم يأتي محمد ويأخذ الزبون من أيدي ابو يحيى فيصرخ الأخير وهو ينادي محمد بـ “السختجي” وهي كلمة تركية الأصل يستخدمها أهالي بغداد القدماء للدلالة على الشخص المحتال.
كما أن المعبرجية يتشاركون يومياً قصصاً مليئة بالإثارة إذ يروي أبو يحيى حادثة حصلت قبل أيام عن إنقاذهم طفلاً من الغرق.
يقول “وقت انتهاء دوام المدارس يستخدم بعض الطلبة وسيلة العبور النهري. كان أحد الطلاب الصغار يلعب بإحدى الدراجات النهرية وفجأة سقط منها وغرق جسده ووصل إلى قاع النهر. ركض الجميع للمساعدة وكان أحد الأشخاص المتواجدين متمرس في السباحة ويتمتع بالقوة البدنية فغطس إلى الأسفل وانتشله من القاع منفذاً حياته”.
لطفي جابر من مواليد عام 1944 كان يعيش في البصرة ثم انتقل مؤخراً ليعيش في بغداد يعمل هو الآخر “معبرجي”، كانت بدايته من داخل موانئ البصرة في عام 1951، نشأ هناك مع والده وجده الذين كانا يعملان في شركة بيت لنج البريطانية لصناعة السفن، وكان يعمل في السفن التي تنقل الحمولات على طريق بصرة- بغداد.
يقول لطفي “بعد تطور الحياة وبناء الجسور وانخفاض مياه دجلة نسبياً توقف النقل عبر السفن الكبيرة وذلك بسبب تضارب أاشرعة السفن مع الجسور”.
استقر لطفي في بغداد وأصبح يعمل في النقل النهري بواسطة الزوارق. يقول: “قديما كانت الزوارق تصنع من الخشب لكن اليوم اختلفت الصناعة نتيجة ارتفاع اسعار الخشب وظهور منافس قوي لها وهي الزوارق المصنوعة من المعادن، خصوصاً تلك المصنوعة من مادة الفايبر كلاس وهذه المادة رخيصة الثمن ومقاومة للمياه وخفيفة الوزن”.
ويعلق العم أبو يحيى على كلام زميله قائلاً: “كان في منطقة العطيفية في بغداد ورشة عائدة إلى عائلة “رواك” لصناعة الزوارق الخشبية وحينما قلّ الطلب على الزوارق اضطرت العائلة إلى غلق الورشة والانتقال الى سامراء لكنهم لايزالون مستمرين بصنع الزوارق الخشبية”.
تختلف الآراء حول بقاء أو انذثار هذا المهنة التي عمرها مئات السنين لكن من ينظر الى وجوه العاملين فيها يلمس شغفهم بها رغم قساوتها، فيشم رائحة أزقة بغداد القديمة وجرف النهر في كلام العم أبو يحيى، ويرى ملوحة وسمار البصرة في لطفي الذي تمنى لو كان لديه ولد يرث مهنته، ويلتقط نظرات الفخر في عيون حامد اتجاه نجله محمد.
في وقت الغداء كانوا جميعاً يضحكون حول مائدة الطعام التي تجمعهم على الجرف، هكذا تبدو نفوسهم نقيّة بنقاء نهر دجلة الذي يقطعونه عشرت المرات يومياً.