في البصرة: العيش تحت سحابة سوداء

سحب الدخان الناجمة عن المحروقات النفطية تشكل غلافاً يحيط بمدينة البصرة، ومع تلك المواد المحترقة تحترق أرواح البشر

 

البصرة- نغم مكي 

تصحو غفران كريم (25 عاماُ) من غفوتها داخل السيارة أثناء رحلة متعبة لغرض العلاج من داء السرطان، تضع رأسها  على زجاج النافذة وتنظر بدهشة لشعلات النار التي نفثت دخانها الأسود في سماء مدينة البصرة.

تشير غفران بيديها الهزيلة المعلقة بالمحلول الوريدي إلى الأعمدة السوداء الصاعدة إلى السماء  وتقول لوالدتها التي رافقتها في الرحلة: “انظري.. هذه هي سبب امراضنا”. 

قبل نحو سنة اكتشف الأطباء مرض هذه الشابة بسرطان الثدي بمرحلته الثالثة.  تلوم نفسها لأنها لم تكتشفه مبكراً، لو فعلت ذلك، لكانت وفرت الجرعات الكيميائية والألم الحارق التي أنهك جسدها. 

تتحدث عن ابنتها ذات الأربعة أشهر وتخشى أن تكبر يتيمة بلا أم ثم تتحسر على وظيفتها التي لم تهنأ بها سوى أسبوع واحد بعد قرار التعيين. تشعر بأن لا شيء الآن يجدي نفعاً وأن كل شيء اقترب للنهاية. 

شعر رأسها وحاجبيها آل للسقوط وعيناها الواسعتان غارتا في تجويف وجهها الذي كان يضجّ بالحيوية. “لم أعد أعرف نفسي في المرآة”، تقول بحزن بينما تهتز مقاعد السيارة بسبب حفر الطريق.

غفران واحدة من آلاف يعتقد الدكتور وخبير البيئة في جامعة البصرة  عبد الرضا اكبر علوان أنهم ضحايا لتلوث هواء محافظة البصرة بالانبعاثات الناتجة عن إنتاج النفط، خصوصاً في المناطق القريبة من الشعلات النفطية شمالي المحافظة، في قضاء  القرنة وقضاء المدينة.

“سكان هذه المناطق يعانون من مشاكل التنفس والسرطانات منذ فترة طويلة، كما أن للانبعاثات تأثير  واضح على ارتفاع  الحرارة في هذه المناطق وحتى على أشجار النخيل وعلى نوعية انتاج التمور”، يوضح الخبير البيئي ويضيف أن “المواد السامة قد تنزل إلى المياه في المناطق القريبة من الاحتراقات النفطية”.

أرقام “غير طبيعية”

تشير الاحصاءات الى ازدياد عدد المصابين بالسرطانات في مستشفيات المحافظة من جميع الاعمار وبأنواع مختلفة من السرطانات، إذ إن عشرات الغازات السامة تتحد بهيموغلوبين الدم عند ازدياد تراكيزها في الهواء.

مدير مكتب المفوضية مهدي التميمي صرح في حديث متلفز أن البصرة تسجل سنويا 9 آلاف إصابة بالأمراض السرطانية، مبينا أن “المحافظة سجلت 27 الف اصابة بالسرطان خلال أعوام 2018 و2019 و2020″.

وأضاف التميمي أن “بعض المناطق كقضاء المدينة سجلت إصابات بالسرطان حتى بين الأجنة”، كاشفاً عن “ارتفاع غير طبيعي في أعداد الإصابات ونوعيتها”.

وسبق وأشار أكثر من تقرير بيئي إلى أن المحافظة الجنوبية التي تعوم على بحر من النفط انقلب بها الحال من نعمة الثراء إلى نقمة المرض، فسكانها اليوم هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الناتجة عن التلوث بسبب كثرة انبعاثات الكاربون فيها من جهة، وبسبب التغيرات المناخية التي تشهدها وارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها الطبيعية، خاصة في فصل الصيف.

القانون العراقي، يحظر لأسباب صحية، حرق الغاز على بعد عشرة كيلومترات من منازل السكان، لكن واقع الحال يشير إلى وجود مناطق يحرق الغاز فيها بالقرب من بيوت الأهالي.

كما تدرك الحكومة العراقية الآثار التي يمكن أن تترتب على حرق الغاز، فقد حمّل تقرير مسرب من وزارة الصحة العراقية تلوث الهواء مسؤولية ارتفاع الإصابة بأمراض السرطان بنسبة تصل إلى 20 في المئة في البصرة وذلك بين عامي 2015 و 2018.

وفي هذا الصدد يتحدث حسام حسن الذي يعمل في إحدى الشركات المتعاقدة مع وزارة النفط قائلاً إن “هنالك خطر مباشر يسببه احتراق النفط على العاملين في الحقول النفطية في الرميلة  وخطر مباشر بسبب الانبعاثات الغازية من شعلات النفط المحترق”.

ويُعد حقل الرميلة العملاق الذي يقع بالقرب من مدينة البصرة واحداً من أكبر الحقول النفطية المنتجة للنفط في العالم إذ يبلغ معدل إنتاجه 1.3 مليون برميل يومياً ما يقارب 40% من إجمالي إنتاج النفط في العراق.

ويضيف حسام: “رغم التقارير التي ترفع لوزارة الصحة بشأن التلوث واللجنة التي تأتي بشكل دوري لتقييم الوضع، لايوجد حل ملموس، فالتقارير تركن جانبا بينما يتفشى مرض السرطان في أجساد السكان قرب الحقول النفطية بالإضافة إلى تعرضهم للإشعاع المتولد عن عمليات استخراج النفط وكذلك بسبب وجود غاز كبريتيد الهيدروجين الضار المصاحب للنفط”.

حلول للحد من التلوث

خلال حديثه يستذكر حسام إصابة أحد زملائه بسرطان القولون ورحلة العلاج التي استمرت حوالي سنتين في الهند ومصر ولبنان.

يقول: “زميلي هذا يعمل في ميكانيك المعدات في الأقسام المساندة لقسم انتاج النفط وكان يتعرض بشكل مباشر لاستنشاق السموم”، ثم يستذكر زميل آخر له عانى فترة طويلة من سرطان الدم  وفقد حياته بسببه.

أما الخبير البيئي والأستاذ الجامعي عبد الرضا أكبر علوان فيؤكد أن مناشدات العمال ومعهم سكان قضائي القرنة والمدينة للمسؤولين للحد من هذه تأثيرات المواد الهيدروكربونية وعشرات المواد المسرطنة الأخرى سواء كانت في الهواء او في الماء او التربة “كلها لم تجدي نفعاً”.

ويقترح علوان اتخاذ إجراءات سريعة وجادة للحد من التلوث مؤكداً أن “هناك تقنيات متوفرة للتخلص من هذه الشعلات والتدفقات الملوثة للجو وهناك إمكانية لاستثمار هذه الغازات بطريقة خضراء و بصورة مستدامة لخلق بيئة  نظيفة”.

ويشير علوان في السياق نفسه إلى تقنيات متقدمة يمكن استخدامها في عمليات انتاج النفط مطالباً الحكومة المركزية بفرضها على الشركات لتخفيف  آثار الاحتباس الحراري الناتج من تراكمات الغازات الدفيئة، ويتفق التميمي مع علوان مطالباً شركات النفط باستخدام تقنيات حديثة لمعالجة تلوث الهواء.

أما حسام حسن، العامل في حقل الرميلة، فيحمل شركات النفط المسؤولية ومعها الحكومة المركزية في بغداد، مطالباً بأن يخصص جزء أكبر من أرباح في استثمارات خضراء تساعد على تنقية المدينة من السموم، وجزء آخر منها لعلاج السكان المتضررين صحياً ودفع تعويضات لأسرهم.

 

 

  • انجزت هذه المادة ضمن مشروع “دورها” الذي تنفذه منظمة تاز بانتر بدعم من وزارة الخارجية الالمانية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى