التغييرات المناخية تحول جنة الأهوار الى أرضٍ يباب

ذي قار- مرتضى الحدود

 

يبتهج صياد الأسماك “أبو شيماء” بهطولات المطر التي باتت تتوالى على مدن الجنوب العراقي لتبعث الأمل في نفوس سكان الأهوار باعادة الحياة الى بيئتهم المهددة بالاندثار عقب عامين من الجفاف أديا الى تراجع المياه بنسبة يقدرها باحثون بأكثر من 80%.

لكنه أمل يشوبه الكثير من القلق والشك، فالأمطار التي تهطل في شمالي العراق وكميات المياه الواصلة عبر دجلة والفرات والروافد الصغير الأخرى القادمة من تركيا وايران والتي تغذي الأهوار بمصدر حياتها الأساسية، مازالت دون معدلاتها بكثير.

الصياد أبو شيماء كان قد جمع في شهر تشرين الاول 2022 شباك صيده ومستلزماتها ووضعها في صندوق كبير، بعد ان قرر ترك مهنته التي اعتاش عليها هو وأجداده، ليبدأ مثل الكثيرين من أبناء أهوار محافظتي ذي قار وميسان، رحلة البحث عن مهنة أخرى في ظل نفوق أسماكم ومواشيهم.

لم يعرف الرجل طوال سنوات عمره الخمسين، مهنة يعتاش منها غير صيد السمك التي توارثها عن آبائه واجداده، الا ان السنتين الأخيرتين وما أتت بهما من جفاف بفعل التغيرات المناخية، أدت به مثل جل أبناء منطقته من مربي المواشي وصانعي الزوارق الى فقدان مهنهم المرتبطة بالمياه التي ظلت لقرون تغمر أراضيهم.

الكثير من هؤلاء، تركوا مهنهم وطبيعة حياتهم المتوارثة في أرض تعد إرثا انسانيا، وهجروا قراهم التي ولدوا وكبروا فيها، وآخرون يخشون من ذات المصير، في ظل استمرار مؤشرات الجفاف وعجز الحكومة عن الإتيان بحلول.

سلام الكنطار هو صانع زوارق ورث مهنة التي تلائم الطبيعة الاهوارية، حيث يتنقل السكان بزوارق خاصة تصنع محليا. بدا عليه التأثر من احتمال تركه للمهنة التي تعود عليها بفعل تراجع مبيعاته، فاسم “كنطار” طوال عقود كان عنوانا لصانعي الزوارق في اهوار جنوب العراق.

هذه المهنة باتت مهددة بفعل الجفاف، فبعد ان كان سجلّ “الكنطار” الشهري يسجل صناعة ما لا يقل عن 12 زورقا، اصبح اليوم لا يتجاوز الـ 5 زوراق في الشهر واغلبها ترسل لمحافظات أخرى أو لأصحاب بحيرات الاسماك، وما يجنيه لم يعد يكفي لمتطلبات عائلته مع تناقص مياه الأهوار وتراجع مساحاتها.

طوال أشهر الصيف والخريف الممتدة بين حزيران وكانون 2022، كان المشهد المتكرر في اهوار جنوبي العراق هو عوائل تجمع ما تملكه في موطنها الأصلي منطلقة في سيارات صغيرة بحثا عن موطن آخر يضمن لهم فرص عمل “فالعوائل لم تعد تحتمل” كما يقول أبو شيماء.

السلطات الحكومية التي تقر بالمشكلة وتنبه لخطورة نتائجها خاصة لجهة هجرة سكان الأهوار، تقول في ذات الوقت إن أسباب مشكلة الجفاف ليست محلية، فهي مرتبطة بقلة تساقط الامطار من جهة، ولكن أيضاً بخفض امدادات المياه القادمة من تركيا وايران من جهة ثانية.

ويقر مسؤولون حكوميون بأن هذا الواقع خلق مشاكل كبيرة، وفي مقدمتها رفع أعداد العاطلين عن العمل خاصة من صيادي الاسماك في منطقة تعاني اصلا من ندرة فرص العمل ومن معدلات فقر هي الأعلى في العراق تصل الى 30%. اذ تم تسجيل الفي صائد للاسماك تركوا هذه المهنة، بحسب مدير زراعة ذي قار الدكتور صالح هادي.

وكيل وزير البيئة العراقي جاسم حمادي حذر من ان العراق سيسجل 100 يوم من العواصف الغبارية مختلفة الشدة خلال العام وهي مرشحة للزيادة، مبينا أن خسائر الحكومة تتجاوز العشرة مليارات دينار، فضلا عن تسجيله خسارة 100 الف دونم من الاراضي الزراعية بشكل سنوي بسبب الجفاف.

ويلفت حمادي الى ان النقص الحالي الحاصل في المياه لم يصله العراق منذ اكثر من 70 عاما والعجز المائي سيصل الى 11 مليار متر مكعب في عام 2035 .

ويتابع بان هناك 13 مليون عراقي من القرويين يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي وهناك احتال كبير بأن يخسروا عملهم بسبب التغييرات المناخية والجفاف الذي يهدد بخسارة أراضيهم مما يدفعهم نحو الهجرة الى المدن.

ويعد العراق الذي يتجاوز عدد سكانه 41 مليون نسمة خامس اكثر دولة في العالم تأثرت بموضوع التغييرات المناخية من التلوث والتصحر والجفاف والعواصف الغبارية وتناقص الايرادات المائية.

الأهوار قد تختفي تماما

تعاني مناطق اهوار ذي قار من تراجع بمنسوب مياه الأنهر المغذية لها حتى بلغت المساحات الجافة مستويات غير مسبوقة تاريخيا.

ينبه جاسم الأسدي، الخبير المائي ومسؤول منظمة “طبيعة العراق” المعنية بأوضاع أهوار جنوبي البلاد، الى خطورة ما يحصل لأهوار العراق ولسكانها، مؤكدا ان الأهوار باتت مهددة بالاختفاء تماما.

ويوضح الأسدي ان مساحة الأهوار المخطط لإغمارها بالمياه وفق رؤية مركز “انعاش الاهوار” التابع لوزارة الموارد المائية، كانت تبلغ 5560 كيلو متر مربع، ووصلت نسب الاغمار فعليا في العام 2019 الى 98% من اجمالي المساحة المخطط لإغمارها “لكن في خريف العام 2022 اصبح الأمر معكوسا فـ98% من هذه المساحة باتت جافة أي ان اكثر من 5400 كيلو متر مربع جفت بالكامل وما بقي من مياه هو في الجداول والأنهار الضيقة”.

ويكمل الأسدي ان مربي الجاموس يواجهون أوقاتا صعبة مع نفوق أعداد منها، وانخفاض اسعار الجواميس من ثلاثة ملايين و500 الف دينار للرأس الواحد الى مليوني دينار، الى جانب انخفاض مستوى الانتاجية من الحليب من 6 لتر الى 3 لتر يوميا، فيما ارتفعت اسعار الأعلاف.

وفق ذلك كما يقول “بات الدخل المالي لمربي الجاموس محدودا ويدخلهم ذلك ضمن شريحة الفقراء ليلتحقوا بالصيادين”، منبها الى ان البلاد تسير نحو الأخطر “فكميات المياه الموجودة في السدود تدهورت بشكل كبير، اذ فقدت 21 مليار متر مكعب من حزيران 2021 وحتى حزيران 2022 لذا فالعراق يعيش تحت رحمة دول الجوار”.

 

ووفق تقديرات حكومية تعرض اكثر من 3 الاف رأس جاموس الى الهلاك في غضون ثلاثة اشهر. وباع أصحاب الجواميس أعداد كبيرة منها بأسعار مخفضة خوفا من هلاكها.

يقول حسام عبد قائممقام الجبايش، وهي منطقة تشتهر بأهوارها، بأن اكثر من 8 آلاف رأس  جاموس نقلها أصحابها الى مناطق اخرى لانقاذها.

ويقدر مختصون ما تضمه مناطق الاهوار بقرابة 33 الف رأس جاموس، أي أن من بين كل عشرة رؤوس من الجاموس هناك ثلاثة تعرضت للهلاك أو نقلت لمناطق اخرى، بنسبة بلغت 33% من المجموع الكلي للجواميس في الأهوار.

يقول حسين عبدالله وهو شاب جامعي من بغداد مهتم ببيئة الأهوار، إنه صدم خلال زيارته لأهوار ذي قار في ايلول اغسطس الماضي من حجم تأثر الاهوار بالجفاف “حتى في عمق مناطق الاهوار لا تجد الا مياه قليلة تتدفق في الجداول.. الأمر كارثي، تأثيرات الجفاف مدمرة على الحياة الطبيعية، فكل شيء هناك مرتبط بوجود المياه”.

حسين الذي تعود منذ سنوات على قضاء بضعة ايام في مناطق الاهوار، أكد ان أبناء المنطقة الذين تحملوا كل شيء خلال السنوات الماضية نتيجة غياب الخدمات “يهجرون المنطقة بعد ان فقدوا فرص العمل التي كانت تمكنهم من ادامة معيشتهم واستمرار حياتهم”.

حلول حكومية خجولة

الحلول الحكومية غائبة تماما، ولا يمكن لاجراءات بسيطة كتنظيف الأنهر والجداول المائية ورفع الترسبات الطينية المؤدية الى الأهوار، من اقناع السكان بعدم الهجرة من مناطقهم او خلق نوع من الاطمئنان لهم بامكانية أن تشكل حلا يديم معيشتهم.

يقول علاوي حيدر، وهو شاب من سكنة الأهوار، اقنع عائلته أخيرا بالنزوح الى الناصرية :”نعم تنظيف الانهر من الترسبات لتسهيل إيصال الاطلاقات المائية التي تندفع من نهري الفرات والغراف الى الأهوار والتي تصل بشكل تتابعي، لكنها ليست حلا أبدا في ظل قلة المياه في تلك الأنهر اصلا”.

ولم تشهد ذي قار منذ سنوات موسم مطري جيد من شأنه يعوض ولو جزء قليل من كميات المياه التي جفت بفعل الحرارة او ترسبت الى أعماق الأرض الجافة العطشة.

يقول مدير الانواء الجوية في الناصرية علي طارق، ان عامي 2020 و2021 شهدا تسجيل معدلات مطرية قليلة جدا، ولم يصل مستوى الامطار المتساقطة الى 31 ملم، وهذا المنسوب لم تسجله المحافظة خلال الخمسين عاما الماضية، وهذا متأتي بفعل التغييرات المناخية التي ضربت العديد من بلدان العام ومنها العراق.

وأطلقت الامم المتحدة في حزيران الماضي، تحذيرا من أن العراق سيواجه تحديات كبيرة ومتفاقمة ناجمة عن التغييرات المناخية ومنها موجات الحر وانخفاض معدل هطول الامطار وفقدان الاراضي لخصوبتها وارتفاع ملوحة الارض.

تضاف الى جملة التحديات تلك عدم كفاية الاستثمارات في البنية التحتية ونقص المياه العابرة للحدود، وانتشار العواصف الترابية.

ودعت الأمم المتحدة العراق الى العمل سريعا واتخاذ اجراءات لحماية البلد من الآثار المدمرة للجفاف، وحذرت من أن البلد هو واحد من بين الدول الخمسة الاولى الاكثر تضررا من التغييرات المناخية وهو في المرتبة الثالثة من بين الدول التسع الأكثر اجهادا للمياه مع انخفاض قياسي بمعدل سقوط الأمطار في العام الماضي 2021 ليكون ثاني اكثر موسم جفاف منذ 40 عاما.

وأوضحت دراسة استقصائية، أجريت العام 2021 وشملت سبعة محافظات عراقية، بحسب رؤية الأمم المتحدة، فان 37٪ من مزارعي القمح و30٪ من مزارعي الشعير، يعانون من فشل المحاصيل بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد. ولم يشمل فشل عمليات الحصاد لنسبة كبيرة من الحقول الزراعية وسط وجنوب العراق فقط بل حتى في محافظات دهوك واربيل التي عادة ما تسجل معدلات مطرية افضل.

وادى الجفاف الذي عانت منه دول الشرق الأوسط عموما، الى انخفاض غير مسبوق في الإيرادات والمدخلات المائية القادمة من تركيا بشكل خاص والتي تنتهي في أهوار العراق بعد ان يتم صرف الكميات الأكبر منها لسد حاجة السكان في المدن الكبرى واحتياجات الزراعة في شمال ووسط البلاد.

ولا ينعكس الجفاف على خفص حصة الفرد من المياه المتأتية من مشاريع تصفية المياه التي واجهت مشاكل في تأمين المياه المطلوبة وتراجع المساحات المزروعة، ولا على ادامة حياة السكان في بيئة الأهوار نتيجة تدهور مصادر معيشتهم، بل على وجود موارد طبيعية تساهم في خلق توازن بيئي، فالأهوار تشكل خط الدفاع الأول ضد التغيرات المناخية.

ويؤدي خلل ذلك التوازن بما حمله من أضرار بيئية نتيجة انخفاض مستوى المياه في نهري دجلة والفرات، الى ارتفاع مستويات الملوحة وتدهور نوعية جودة المياه مع وجود تبخر سنوي يصل إلى 3 أمتار.

ويرى عضو مجلس النواب العراقي داخل راضي، ان تعامل وزارة الخارجية العراقي اتجاه الملف المائي لم يحظ بالأهمية المطلوبة ولم يتم العمل على تدويله أو المطالبة بحصص العراق العادلة من المياه في الأنهار المشتركة، وهو ما أدى الى استفحال حالة الجفاف وتضرر الأهالي الساكنين بمناطق الاهوار، فهم الأكثر تضررا مقارنة ببقية المناطق.

المتحدث باسم وزارة الموارد المائية علي راضي، أكد من جانبه جدية العراق في متابعة ملف المياه وحقوقه المائية. وأوضح أن لقاءات مرتقبة وزيارات متبادلة ستحصل بين العراق وتركيا لمناقشة الملف المائي بشكل واسع ولتأمين حصة عادلة للعراق وفق معطيات السنة المائية، والعمل على تقاسم الضرر وفق المواثيق الدولية التي تضمن لكل طرف حقوقه.

في انتظار تحقق ذلك، وعودة مستوى الاطلاقات المائية من تركيا الى سابق معدلاتها في السنوات الماضية، فان آلاف آخرين من أبناء الأهوار غير ابو شيماء سيضطرون للهجرة والبحث عن فرص عمل جديدة في بيئة تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وهو ما يعني دخول مزيد من السكان خط الفقر بكل مايحمله ذلك من تداعيات.

 

 

 

*أُنجزت المادة في إطار برنامج تدريب ضم صحافيات وصحافيين من العراق واليمن وغزة، تحت اشراف الجامعة الامريكية في بيروت وبدعم منظمة دعم الاعلام الدولي (IMS).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى