وجبة فطور في ساحة الطيران.. “البلدية مشكلتنا الأكبر ورزقنا على المخمورين والكسبة والموظفين”

بغداد- حيدر حاتم

“هلا بيهم هلا”، هكذا ينادي العم ابو علاء بمقولته المعتادة وهو قادم بعربته القديمة إلى ساحة الطيران عند الساعة الثانية عشر منتصف الليل، ليقوم بتحضير أدواته وتجهيزها بادئاً رحلته الشاقة في إعداد وجبات الفطور للمتواجدين في الساحة.

جسد أبو “علاء” الهزيل لا يبدو قادراً على تحمل البرد، إلا أنه رغم درجات الحرارة المتدنية كان يرتدي ثياباً خفيفة وباليه، شارحاً أن حرارة طبخه تساهم في تدفئة الأجواء حول عربته وتساعده على تحمل الجو.

بأدوات مضى عليها الزمن يحضّر العم أبو علاء الطعام لزبائنه. موقده الغازي تجمّعت عليه طبقات من الدهون ومقلاته قديمة تعرضت للانثناء من جوانبها، يطبخ فيها منذ سنوات وجبة عراقية تقليدية تدعى “المخلمة” تتكون من الطماطم والبصل والبيض، يعدها بسرعة فائقة، ويقدمها للزبائن على عربته المهيأة لتكون مطبخاً صغيراً وطاولةً يتناول عليها الناس طعامهم في آن واحد.

تجاور ساحة الطيران محالً لبيع الخمور، كما تعد الساحة مركزاً للعاصمة يتجه إليه الكثير من الموظفين والطلبة كل يوم فيخلقون حالة من الزحام طوال فترات اليوم. 

يقول أبو علاء أن معظم زبائنه من العمال والموظفين الذين يصلون مبكراً و”بعض المطرودين من منازلهم والمخمورين الذين ينهون رحلة سكرهم بوجبة لذيدة”، على حد وصفه.

لعبة القط والفأر 

عند دخولك الى الساحة في اوقات تواجد الباعة ستلاحظ تصاعد اعمدة الدخان من عرباتهم، مع فوحان روائح الأطعمة التي تجلبك اليهم بدون شعور. يأتي الرجل الهرم بعربته القديمة، موقفاً إياها في مكانها المعتاد، عسى أن يبيع الطعام الذي يعده دون مضايقة رجال البلدية له، والذين تكثر حركتهم بعد الساعة السادسة فجراً.

في المقابل يحاول موظفو البلدية التقليل من الزحامات المرورية هناك، و”الحفاظ على منظر العاصمة”، فينتشرون في الساحة لملاحقة الباعة المتجولين ومصادرة عرباتهم بين الحين والآخر في لعبة أشبه بلعبة القط والفأر.

العم أبو علاء الذي يناهز عمره الستين عاماً، قضى نصف حياته في هذا المهنة محضراً الطعام للزبائن وهارباً من رجال البلدية والشرطة. 

عربة العم أبو علاء أو كما يطلق عليها “العزيزة” هي عربة قديمة مصنوعة من الحديد القديم المتآكل مع قبضات باردة يمسك فيها بأيديه العارية حتى يتمكن من المناورة بين السيارات عند الذهاب والعودة. يصفها بأنها رفيقة دربه، “أمضي معها ساعات طويلة كل يوم دون أن تخذلني ولو ليوم واحد”.

تبدو عليه علامات الخوف بأن يخسرها بعد أن صادرها منه رجال البلدية عدة مرات بسبب وقوفه على الطريق معرقلاً سير العجلات. أسأله عن سبب عدم وقوفه في مكان آخر فيرد غاضباً: “متشوف ذيج الصفحة شصايرة”، يقصد فيها الجانب الآخر من الساحة الذي يكثر فيه باعة الفطور الصباحي.

على الجانب الآخر من الساحة يعد أبو محمد سندويشات “القيمر” المحلي او كما يسميه البغداديون “كيمر عرب”. يبدو حاله أفضل من حال العم أبو علاء، فهو يقدم وجبات الإفطار لرجال لشرطة وعمال البلدية بالمجان ليتقرب منهم فيتغاضون عنه لفترات أكثر من البقية. يكمل عمله بينما يقول معلقاً: “هؤلاء أصدقائي”.

عندما يقل عدد الزبائن ينتهز أبو محمد الفرصة فيمسح العربة بالكامل وبغسلها بالماء الحار خوفاً من جلب قطرات العسل المتناثرة على عربته الذباب والحشرات، فهو حريص على نظافتها ولمعانها.

المطر ورجال البلدية 

على مسافة ليست بقريبة من عربة أبو علاء يقف الشاب حسن منشغلاً بتحضير بعض الوجبات الصباحية يقدمها لزبائنه المعتادين. حسن لا يأتي إلى الساحة في منتصف الليل إنما مع بزوغ أول خيوط الشمس عند صلاة الفجر، ويبقى في المكان ذاته حتى الساعة العاشرة صباحاً. 

اختار حسن موقعاً من الساحة لا تجاوره محال بيع الخمور فمعظم زبائنه -خصوصاً وقت الشتاء- يُكثرون الطلب على اللفت (الشلغم) والباقلاء، يقدمها لهم بعناية بالغة مستخدماً أوانٍ وملاعق بلاستيكية.

يقول بينما يتصاعد البخار من عربته: “أتمنى أن يصبح لدي مطعمي الخاص أقدم فيه الفطور لزبائني في أجواء دافئة بعيدا عن البرد الشديد والأرصفة المتسخة، وبعيداً عن موظفي البلدية أيضاً!”.

يشرح حسن أن عمله بالكاد يسد جزءاً بسيطاً من حاجته وبأن سبل الحياة تضيق أكثر وأكثر، إلا أن روح الدعابة لم تفارقه إذ يقول ضاحكاً: “دائماً ما يأتيني المتسولون ويطلبون مني بعض النقود، أرد عليهم أن ما اجنيه من عملي أقل بكثير مما تجنونه أنتم.. لطفاً دعوني أعمل معكم”.

تنتهي جولة الضحك التي شارك فيها زبائن يتحلقون حول عربة حسن، ليقول واحد منهم يعمل موظفاً حكومياً بالقرب من المكان: “انا معتاد أن أتناول وجبة الافطار هنا في ساحة الطيران، أحياناً عند حسن وأحياناً عند باعة آخرين. إنهم لطفاء.. طبخهم لذيذ ونظيف بخلاف ما يعتقد كثيرون وأسعارهم رخيصة، هم يستحقون دعمنا وتشجيعنا”.

لم تمض دقائق على مقابلتنا للباعة الثلاثة حتى  بدأت قطرات المطر في الهطول. كانت ملامح السعادة تطفو على وجوه المارة فالأجواء هنا تبدو شاعرية، إلا أن وجه العم أبو علاء بدا شاحباً، فالجو الماطر يعني أن عليه العودة إلى المنزل. “ليس لدي سقف يحميني ويحمي عربتي من البلل” يقول.

أنهى العم ابو علاء يومه مع بداية يوم الجميع، وبعد أن وضع كل حاجياته على عربته، بدأ بدفعها بما تبقى لديه من عزم، قائلاً بصوت متعب وخافت: “لقد اتحد اليوم شيئان ضدي، المطر ورجال البلدية، ماذا أفعل يالله!”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى