حارس السكة ومنظفها في مواجهة السّراق

بغداد – مهدي غريب
ينهض علي عبود من فراشه فجراً على أصوات الكلاب وهي تنبح بوجه ثلاثة سُراق يحاولون فك المرود (براغي) سكة القطار حاملاً على كتفه النحيل لمامة القش متوجهاً نحوهم.
الرجل السبعيني يفشل كالعادة في محاولة الإمساك باللصوص، قوته البدنية لا تساعده على الركض سريعاً، فيجلس على السكة محبطاً من محاولتهِ مترقباً عودتهم خلفَ باب بيته كخطةٍ بديلةٍ للامساك بهم.
يقول علي عبود السهو وهو يجمع براغي سكة القطار بيده المُتجعدة: “بيتي مقابيل السكة بس اسمع صوت الكلاب وهي تنبح بلهثة وبصوت عالي أعرف اكو حرامية كاعد يبوكون السجة مال القطار”، ويتابع “بس حرامات بكل مرة يفلتون من ايدي وما أكدر الزمهم والله اذا الزمهم الا انيم الكرك براسهم”.
السكة التي يحرسها الرجل السبعيني هي سكة قطار بغداد التي تقع في منطقة الدورة جنوب شرقي العاصمة بالقرب من بيته والتي تمر عليها القاطرات المحملة بالمشتقات النفطية، فالمساحات المحاذية على أطراف السكة شاسعة مما يجعلها عرضةً للسرقة.
لم يكتفِ علي السهو بحراسة السكة وحدها بل يشرف على تنظيفهِا بشكلٍ يوميٍ ومستمر مع أحفاده الصغار، يبدأ بإزالة الأنقاض المتكدسة كمرحلة أولى ومن ثم كنسها وتعبئتها بأكياسٍ كبيرةٍ ليقوم برميهِا في حاوية النفايات.
يقول أبو عباس السهو وهو يشرب كوب الشاي “أني أحب السكة لان مرتبطة بأبويه.. أبوية جان من اقدم العمال الي اشتغلوا بمحطة قطار الدورة كعامل مكص”، وتعني كلمة مكص من يغير اتجاهات سكة القطار من اليمين الى اليسار وبالعكس حسب اتجاه القطار.
هكذا يشرح علي عبود عمل والده، مكملا حديثه: “هذا الحب خلاني أصير أمين عليها أحميها وأنظفها وأنصح الناس بعد ميذبون الأوساخ لكن بدون فايدة”.
يعمل علي السهو في مهنٍ مختلفة، إلا أن المهنة التي اتقنها وعمل بها أكثر من أربعين سنة هي تطبيق ارضيات المنازل والبنايات التجارية لكنه ترك العمل بها بعد إصابته بجلطات دماغية، أما اليوم فهو يعمل في السوق قريباً من بيته ويقضي بها معظم وقته.
بدء علي عبود حملته في تنظيف السكة قبل خمس سنوات بعدما زادت المخاطر على الطريق الذي يمر منه القطار وبالتحديد عند سوق الدورة الشعبي.
فالنفايات التي تُرمى وتتكدس على السكة جعلت القطار ينحرف عن مساره وتسقط قاطرته، ليأخذ الرجل السبعيني على عاتقه تنظيف السكة بدءاً من حاوية نفايات السوق مروراً بجامع مكة الشعبي وهي مسافة تقدر بأكثر من 300 متر.
في أواخر العهد العثماني كان العراق بولاياته الثلاث، بغداد والبصرة والموصل مركزا للصراع بين الدول الاستعمارية الكبرى بريطانيا وألمانيا وروسيا وفرنسا والدولة العثمانية، وكان الهدف من هذا التنافس هو السيطرة على خطوط المواصلات العراقية وبالتحديد سكة القطار التي تربط تلك الدول بخطوط التجارة الدولية.
استطاعت ألمانيا من خلال علاقاتها الوثيقة بالدولة العثمانية مد سكة حديد بغداد – البصرة – برلين قبيل الحرب العالمية الأولى لكن سرعان ما توقفت اعمال الألمان بسبب الحرب لينجح البريطانيون بعد سيطرتهم على العراق في إنشاء أغلب السكك العراقية دعماً لمصالحها الخاصة في نقل أسلحتها وجنودها بسهولة.
الخط الذي يقوم بحراسته وتنظيفه علي السهو اليوم، هو الخط الناقل للقَاطرات القادمة من مصفى الدورة والمحملة بالمشتقات النفطية الذاهبة الى الموانئ العراقية.
تنطلق رحلات المسافرين من محطة بغداد المركزية في الساعة السابعة صباح كل يوم ويعبر القطار المحافظات الجنوبية مرورا بمحافظة الحلة الديوانية الناصرية ليصل إلى محافظة البصرة في الساعة الرابعة والنصف فجراً، بينما ينطلق قطار البصرة متجهاً إلى محطة بغداد المركزية في الساعة السابعة والنصف مساءً ليصل إلى بغداد في الساعة الخامسة فجراً .
أما القاطرات المحملة بالمنتوجات النفطية فهي على عكس رحلات المسافرين لا تلتزم بجدول محدد للانطلاق والعودة، وتحمل بضاعتها من مصفى الدورة لتذهب به إلى الموانئ العراقية وهي رحلة تستغرق عادة أكثر من سبع عشرة ساعةً.
رغم إصابته بجلطتين دماغيتين وألم في المفاصل لم يمل الرجل السبعيني يوماً من المواظبة على تهيئة السكة للقاطرات القادمة من محافظة البصرة بل يستيقظ في الساعة الخامسة فجراً ويبدأ عمله المعتاد بعدما يفطر على بيضةٍ مسلوقةٍ وكوب شاي ورغيف خبز.
يتحدث علي عبود قائلاً بنبرةٍ حزينةٍ “اني اتعجب على اهمال الجهات المعنية لسكة القطار.. السكة محتاجة عوارض بين ممرات السيارات ومحتاجة صيانة دورية ومحتاجة متابعة لان الحرامية اهواي واني وحدي ما أسيطر على الموضوع”.
ينهي علي عبود كلامه بينما تبتلع السماء قرص الشمس ويرفع آذان المغرب، يقف بهيئته النحيلة مبتسماً بوجه قطار ذاهب الى مصفى الدورة رافعاً يده ومرحباً به.
ثم يكمل كلامه قائلاً: “والله لو يخلوني مسوؤل بدون فلوس بس صلاحية إلا أنظم السجة وأضبط ميزانها وأخليها مثل الورد”.