من يصلح معاطف الفقراء في كربلاء؟

كربلاء- حسنين علاء 

على باب محله الصغير في شارع باب القبلة يضع السيد حسين كاظم لوحة إعلانية كتب عليها: “تصليح وصبغ القماصل الجلدية”، مهنة قد تكون غريبة بالنسبة للبعض وقد لا تحظى بشهرة واسعة خصوصاً بين أوساط الشباب، من خلالها يقوم العم حسين برتق وصبغ المعاطف الجلدية وإعادتها وكأنها جديدة.

يعمل العم حسين أو “أبو علي” -كما يفضل أن نسميه- في صبغ السترات الجلدية القديمة منذ عام 2003، يقوم باصلاح التالف منها مهما كانت نسبة التلف التي فيها.

تعلم هذه المهنة من خلال سنين عمله في معمل الجلود في بغداد حيث اكتسب خبرة واسعة في التعامل مع مختلف أنواع الجلود سواء كانت طبيعية أو من تلك الصناعية التي يسميها أبو علي بـ “المشمع”. 

في غرفة من منزله في كربلاء اتخذ منها مشغلاً خاصاً يقوم الرجل الخمسيني بالتعامل مع المعاطف الجلدية التي يجلبها له زبائنه لصبغها أو إصلاحها، وفي الغرفة نفسها أقام ركناً لخياطة الملابس، وهي عمله الرئيس الذي يشترك به مع إخوانه.

يقول العم حسين أن المدة التي يستغرقها صبغ المعطف أو “القمصلة” الواحدة ترتبط بنوعية الجلد الذي يتعامل معه، فهناك جلود “جامدة” تحتاج إلى معالجة ببعض المواد قبل البدء بعملية الصبغ وهناك أنواع أخرى “ليّنة” مما يجعل عملية صبغها أسهل وأسرع على حد وصفه.  

وتمر عملية صبغ “القماصل” بمراحل عدة تبدأ بالتنظيف وإضافة بعض المواد الدهنية لتقوية الجلد وبعدها مرحلة الصبغ ثم التنشيف ثم مرحلة التلميع وتسمى بالـ “بوليش”. 

وتعد مهنة رتق المعاطف الجلدية وصبغها من المهن القديمة في كربلاء وشهدت أوج تألقها في ثلاثينيات القرن الماضي عندما انتشرت معامل دباغة الجلود في المدينة.

“قيصرية الأورزدي” في باب القبلة كانت هي السوق الكبيرة والشهيرة التي تضم مايقارب العشرين محلاً لصبغ وإصلاح المعاطف والحقائب الجلدية وهي مغلقة في الوقت الحالي بعد أن تركها أصحاب المحال بسبب مشاريع التوسعة التي تقوم بها إدارة العتبات المقدسة هناك.

بالنسبة لـ “أبو علي”، فإن مهنته في جوهرها هي مساعدة للناس الفقراء أو محدودي الدخل، فبدلاً من شرائهم المعاطف الجديدة بتكلفة عالية يقومون بإصلاحها وصبغها لديه، فيقول: “مهنتي هي تسهيل أمر للناس وتوفير تكلفة المعاطف الغالية عليهم”.

زبائن سوق البالة هم الآخرون يستفيدون من مهنة العم أبو علي، “فهم يشترون المعاطف المستخدمة ويجلبونها للصبغ والتلميع كي تصبح وكأنها جديدة، وكذلك أصحاب محال الملابس الجاهزة، يقومون بإصلاح وصبغ ما تلف من بضاعتهم لدينا”، يوضح أبو علي.

وتعد كربلاء من المدن السباقة في مهنة صناعة ودباغة الجلود فقد كان هناك ما يسمى بالمدابغ العثمانية التي قام ببنائها الحاج “حيدر الدباغ ” في بستانه في منطقة العباسية الشرقية قرب المسلخ القديم في كربلاء وقامت بانتاج انواع كثيرة من الجلود معتمدةً على جلد الاغنام والابقار كأفضل انواع الجلود الطبيعية.

ورافق تلك المدابغ عدد كبير من المصابغ التي اشتهرت آنذاك وأخذت بالتوزيع الى المحافظات  بل حتى قامت بالتصدير الى البلدان المختلفة، لكنها هدمت من قبل بلدية كربلاء في 1975 وتم تعويض الدباغين بمحال في الحي الصناعي حالياً عام 1976.

“محمد المنكوشي” صاحب الثمانية وثلاثين عاماً يعمل في صبغ الجلود منذ أزيد من عشر سنوات إلى جانب مهنته الأساسية في بيع الأحذية.

يمتلك المنكوشي اليوم مصبغة صغيرة في الطابق الأخير من مجمع الكوثر في شارع الجمهورية في كربلاء ويواظب على الاستمرار في مهنته التي  راكم فيها الكثير من الذكريات والتجارب.

في مصبغته يعمل محمد في صبغ المعاطف الجلدية منذ الساعة العاشرة صباحاً وحتى منتصف الليل أحياناً إذا ما كان ضغط العمل كبيراً، أما زبائنه فمعظمهم من الضباط وعناصر الشرطة الذين عادة ما يأتون لتجديد صبغ معاطفهم لديه أو تلميعها ودهنها. 

“أستطيع صبغ جميع الألوان والأنواع إضافة إلى أني أقوم بترقيع الجلد إذا تلف جزء منه فأعيده من غير أي علامة واضحة أو فرق ظاهر للعيان”، يقول محمد مزهواً بمهارته.

يذكر الرجل الذي أصابه الشيب باكراً رغم عمره الثلاثيني أن المواد التي يستخدمها في صبغ الجلود متنوعة المنشأ ومتباينة الجودة، “فهناك الصبغ الإيطالي وهو الأفضل من بين الأنواع والصبغ الإسباني في الدرجة الثانية ويأتي الإيراني في الدرجة الاخيرة”. 

ويعتبر المنكوشي آخر رفيق مهنة للعم أبو علي، فهما آخر اثنين يعملان في صبغ المعاطف في كربلاء ولايوجد غيرهما، تربطهما علاقة عمل منذ زمن، فقد ذكر أبو علي أنه يقوم بإصلاح “القماصل” الذي يجلبها له محمد المنكوشي. 

في بعض الأحيان يقوم الأخير بصبغها وتلميعها وهو يتذكر أصحاب المهنة السابقين الذين كانوا يمتلكون مصابغ ثم فارقوا المهنة، فقد عمل المنكوشي في مصبغة “موفق الوزني” وتعلم أصول الصنعة هناك بعدما عرفه عليه صديقه القديم حسام الذي ترك هذا المجال وتفرغ لأعمال أخرى.

الكفوف والفرشاة والاسفنجة هي الأدوات التي يستعملها المنكوشي والعم أبو علي في عملية الصبغ بالاضافة إلى منضدة خشبية طويلة توضع عليها المعاطف ليباشرا مراحل العمل المختلفة.

كما أن “الدقة والسلاسة في التعامل مع الجلد” هي من الأمور المهمة التي يذكرانها في عملهما كي لا يتلف الجلد ويتآكل بسبب المواد المستخدمة، بالإضافة إلى القدرة على مزج الألوان واستخراج اللون المناسب، “وهنا تبرز الخبرة وتلعب دورها” يؤكد المنكوشي.

الذكريات الجميلة هي التي جعلت أبو علي والمنكوشي يتمسّكان بهذه المهنة، فالأول جمعته صداقات كثيرة في معمل الجلود مع الكادر الذي كان يعمل هناك وصداقات أخرى مع الزبائن الحاليين، والثاني يبدو فخوراً  بأنه من آخر المتمسكين بمهنة مهددة بالاندثار رغم ضعف مردودنها المالي، ويبدو بنفس الوقت خائفاً أن يضطر هو وزميله إلى إغلاق مصبغتيهما في يوم ما فتختفي معهما مهنة دبغ الجلود في كربلاء. 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى