في محلّة الشواكة.. أن تقع بحبّ شباك الصيد

المنصة- فاطمة كريم

تختلط صرخات الأطفال الذين يلعبون بالكرة بأصوات طرقات مسامير صانعي شباك الصيد وتنبعث من المكان رائحة الأسماك المعروضة للبيع. إنها محلة “الشواكة” في العاصمة بغداد، المكان الأشهر لصناعة وإصلاح الشباك وبيع مستلزمات الصيد.

في هذا السوق التاريخي القديم يعمل أحمد هادي (58 عاماً) في صناعة الشباك منذ أن كان في السادسة عشر من عمره، فرغم دراسته الصحافة في كلية الاعلام في بغداد إلا أنه فضل العمل في هذه المهنة ليصبح أحد أشهر صانعي الشباك في المنطقة.

بالنسبة لأحمد، فإن تحولات كثيرة طرأت على مهنة حياكة شباك الصيد منذ أن بدأ العمل بها، ففي السابق كانت الشباك تحاك من خيوط القطن بواسطة “المكوك” وهو بكرة معدنية يلف حولها الخيط، وتتطلب الكثير من الوقت والجهد في الحياكة. 

“كان للنساء دور أساسي في هذه الحرفة فيقمنَ بحياكة الشباك ثم يتم توزيعها على أصحاب المحلات”، يقول أحمد ثم يتابع بنبرة أسى: “الآن ومع دخول المستورد انعدم دور النساء والحياكة المحلية بالمجمل وأصبح الطلب على الشباك المستوردة أكبر وذلك بسبب سرعة إنتاجها ورخص سعرها”.

يضيف أحمد الملقب في السوق بـ “العم أبو حسين”: “كان الطلب قديماً يستغرق وقتاً وكانت الشباك تتميز بجودة عالية، لكنها لم تعد اليوم تسد الحاجة المحلية فاتجهت الأسواق إلى الاستيراد وأغلبه يأتي من الصين وتايلند”.  

يزور منطقة الشواكة، مركز صناعة الشباك وبيع مستلزمات الصيد في العراق، زبائن كثر من محترفي الصيد من باقي المحافظات مثل العمارة والناصرية والمحافظات الغربية، كما يزورها آخرون لشراء الأسماك الطازجة من المحال المنتشرة هناك.

سميت المنطقة بالشواكة نسبة إلى الشوك وعروق الحطب التي كانت ترد من أطراف بغداد عبر النهر وتستخدم وقودا للمخابز وهناك رواية أخرى تقول إن ساكني المنطقة كانوا يمتهنون بيع الشوك الذي كان يأتيهم من منطقة الكرادة.

ويطالب أهل المحلة اليوم بضمها إلى لائحة التراث العالمي لاحتوائها على العديد من البيوت والعمارات والأسواق التاريخية، وأبرزها سوق بيع شباك الصيد.

يقول العم أبو حسين إن أكثر المحافظات التي تأتي للتبضع من هذه السوق هي المحافظات الغربية، ويضيف: “كنا سابقاً، عندما يأتي صيادو المحافظات الأخرى للشراء منا، نعود ونزورهم  في محافظاتهم لنرى عملية الصيد ونتنزّه في البحيرات”.

 

“صـمد محمد” صياد جاء من محافظة الأنبار الى محلة الشواكة، كان يتحدث إلى أبو حسين عن نقص حصيلة الصيد في السنوات الاخيرة بعد أن تراجع منسوب المياه في نهر دجلة، قبل أن يقول “كُل فترة آتي الى هنا وبالأخص إلى محل ابو حسين فنحنُ على معرفة منذ فترة طويلة”، مشيراً إلى أن “محلة الشواكة معروفة لدى عموم صيادي البلاد، تشتهر بكفاءة بضاعتها رغم وجود أسواق شبيهة في محافظات أخرى”.

يوضح هذا الصياد أن للشباك المستخدمة في الصيد أسماء وأنواع وأحجام مختلفة، ففي كل محافظة يكثر الطلب على نوع معين خلافاً لنوع الشباك المستخدم في محافظة أخرى، حسـب أنواع الأسماك.

فهناك شباك مخصصة للصيد في الأنهار والبحيرات ومنها ما يستخدم في الأحواض الصناعية مثل “الكرفات” وهي عبارة عن شبكة كبيرة توضع على حسب مقاس الحوض الاصطناعي أمـا “النصب” فيوضع في البحيرات ويتم نصبة لساعات طويلة وأحياناً لمدة يوم أو يومين ثم يتم إخراجه. 

كما أن هناك الأقفاص التي ظهرت في الآونة الأخيرة وهي عبارة عن قفص يوضع في البحيرات يتم صيد الأسماك بواسطته.

في الشارع ذاته بجوار محل العم ابو حسين يقبع محل أبو علي العامل في هذه الحرفة منذ عام 1991.

ورث أبو علي هذه الحرفة عن والده وبقى محافظاً عليها، يقول: “تمنيت كثيراً لو أن أحد ابنائي يرث هذه المهنة عني، لكن شائت الظروف غير ذلك،  أما الآن فيعمل معي أحد أبناء أصدقائي وأنا سعيد بتعليمه ما لم أقدر على تعليمه لأبنائي”.

يتدخل أبو حسين الابتسامة تملأ وجه ممازحاً زميله أبو علي وملقباً إياه بالـ “نكري” وهي كلمة تعني في العراقية الدارجة النشال أو اللص، ويعلق قائلاً: “أذكر اول مرة التقي بها بأبي علي.. يومها حاول أن يسرق أحد زبائني من خلال إقناعه بجودة شباكه وطريقة حياكته الخاصة لها، لكن لم ينجح”. 

يوضح أبو علي أن الطلب على الشباك يتفاوت بين فترة وأخرى، فلكل نوع وقت خاص به بحسب مواسم تكاثر الأسماك الموجودة في البحيرات والأنهار وبحسب أنواعها وأحجامها.

“مثلا يتم استخدام  شبك الأقفاص في الشهر الثاني من كل سنة، أما البحيرات فتكثر بها الأسماك في فصل الشتاء ويستخدم فيها النصب” بحسب أبو علي الذي ذكر قياسات مختلفة للشبك معروفة لدى الصيادين منها الربيعي والخميسي والسديسي. “هكذا يكُبر حجم الأشباك بكبر حجم السمكة”.

أبو علي وأبو حسين يشرحان أن للشباك أيضاً استخدامات أخرى غير الصيد، “قلة الطلب على شباك السمك وعدم توفيرها دخلا ماديا كبيرا جعلنا نبتكر بضائع جديدة”.

ومن بين مصنوعاتهما شباك لملاعب كرة القدم تثبت على العارضات، وأخرى تستخدم من قبل الجيش في التدريبات العسكرية، وكذلك شباك تثبت تحت سلم الدرج داخل المنازل لغرض السلامة والأمان، وهي استخدامات أصبحت توفر لهما دخلاً إضافياً.

عند مغادرتك هذه المحلة يبقى شيء من روحك فيها، فجمال شناشيل بغداد وترحيب ناسها البسطاء المحافظين على حرفهم القديمة والابتسامة التي تملأ وجوههم كأنهم  عائلة واحدة مجتمعين حول مائدة واحدة يتقاسمون أرزاقهم وهم يرددون: “الي يجي يمنة لازم ياكل سمج”. 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى