المسبحة..ذهب ولكن بشكل آخر

المنصة- مصطفى جمال مراد

في سوق “الهرج” الشعبي في جانب الرصافة من العاصمة بغداد يجلس “حازم الجبوري” في كشك صغير بينما يتزاحم الزبائن من حوله يقلبون حبّات المسابح ويستفسرون عن نوع حبّاتها وأسعارها وطريقة صنعها.

يعمل الجبوري ذو الـ 47 عاماً في مهنة “الجراخة” أي صنع السبح وتزيينها واضافة حبات الخرز والخيوط المعروفة بـ “الكراكيش” إليها، أمضى فيها أكثر من 15 عاماً لم يغير فيها كشكه ولم يتغيب يوماً عن المكان حتى بات معروفاً للجميع في المنطقة.

على حائط الكشك يعلق حازم عشرات المسابح وعلى بسطة في الداخل يعرض مختلف أنواع الخيوط والكراكيش والخرز والمسابح الثمينة، وعندما يبدأ الحديث عنها يبدو وكأنه دليل يأخذنا إلى عالم هذه المهنة، إذ يخفي وراء مظهره البسيط معرفة واسعة بتلك السبح وعلاقتها بالحضارات القديمة.

يقول حازم إن “صنع المسبحة بدأه السومريين قبل خمسة آلاف سنة ثم انتقل بشكل سريع إلى حضارات أخرى كالهندية والفارسية”.

ويضيف أن المسبحة استخدمت في طقوس التعبد لدى ديانات متعددة فقد اقتناها البوذيون والبراهمة وكانت تسمى “حب مالا” ومعناها عقد الذكر، شارحاً أن شكلها وعدد حباتها يختلف من ثقافة لأخرى.

فمثلاً في الديانة الهندوسية تتساوى عدد حبات السبحة الواحدة مع ما يعبدونه من أبراج ونجوم وكواكب، وفي العصور المسيحية الاولى المعروفة بـ “عصور الاضطهاد” كانت تستخدم كوسيلة للتعارف بين النصارى عوضاً عن الصليب.

كما أن المسبحة تتواجد عند اليهود أيضاً إذ عرفت لدى أتباعهم  بإسم “ماه بركوت” أي البركات المئة، وكانت تستخدم في طقوس “الكابالا” وتعني الشعائر الدينية المرتبطة بفلسفة الكون.

ويضيف  حازم الجبوري أن “المسبحة ظهرت في الإسلام منذ بداياته وكانت تستخدم للتسبيح وذكر الله والاستغفار في الصلاة وتتكون عدد كرات المسبحة الواحدة من 101 حبة وأحياناًَ 33 التي تسمى الثلث أو المسبحة الحجازية المباركة”.

ويستطرد حازم في حديثه عن السبح ذاكراً أنها تجاوزت كل الحدود وعبرت كل القارات بل إن هناك دول أصبحت تمتلك الريادة والتميز في صناعة السبح النادرة والثمينة، فأبرز البلدان المصدرة هم ألمانيا وبولندا وعدد من الدول الأخرى مثل تركيا ومصر والسعودية ولبنان.

أما في العراق، فيتم صنع السبح فقط في الموصل وبغداد والنجف، “لكن أغلب السبح المتواجدة في الأسواق العراقية حالياً مستوردة من دول أخرى” بحسب هذا البائع.

نظرة متفحّصة للسبح التي يعرضها حازم في سوق الهرج تكفي لتشير إلى مدى تنوع الخامات اللازمة لصنعها. وعند سؤاله عن تلك الخامات وصفها بأنها “بحر كبير وعميق جداً” لشدة تنوعها.

من الخامات الأساسية التي يعتمد عليها في مهنته مادة “الكهرب” وهي مادة صمغية تكون على شكل سبيكة تدخل عند ‘الچراخ” فيفصلها إلى عدة قطع ويصقلها ويقوم بتصميمها بأشكال متنوعة ومختلفة حسب رغبة الزبون.

ويوضح أن هناك اختلافاً جوهرياً في مادة “الكهرب” بين السبح القديمة والجديدة،
فالمسابح الجديدة لا تنبعث منها رائحة كتلك التي تخرج من مسابح الكهرب القديمة والتي تم صنعها قبل عشرات السنين لأن “الكهرب القديم كان يأتي كمادة طبيعية وليس صناعية كما هو الحال اليوم”.

ولا يبدو حازم خبيراً في الأحجار فقط بل في الروائح التي تميز كل نوع منها، موضحاً أن بعض أنواع الكهرب تخرج رائحه “نومي بصرة ” إحدى الفواكه المجففة وأخرى تخرج رائحه “عطب” أي رائحة شيء يحترق.

ويكمل أن “هناك مسبحة مصرية تخرج رائحة الهيل عند استعمالها وسبح أخرى كسبحه الكهرمان وسبحة السندلوس التي تتكون من ماده صناعية تخرج رائحة الاسفنيك وسبح أخرى كسبحه الأبنوس وخشب النارجيل وعصى موسى”.

ويتابع وكأنه موسوعة تتكلم بينما يتحلّق حولنا عدد من الزبائن مهتمون بشرحه، شارحاً أن هناك سبح تصنع من لبّ الثمار تصدر من الصين وسبح أخرى مصنوعة من عظم الجمل يتم نحتها بأشكال مختلفة من قبل “الچراخ”.

 و”هناك العديد من أنواع الكراكيش بمختلف الألوان، منها العراقية والكويتية والانتيمون الذي يكون سعر الجرام الواحد منه خمسمئة دينار عراقي”.

خلال تواجده في الكشك يقوم “حازم” بصنع سبح مختلفة ومتنوعة، فينتقي الخيط المناسب ثم يمرره ببطء داخل الحبات الملونة ويقوم بتزيينها واحدة تلو الأخرى بالخرز الذي يطلبه الزبون كما يضيف لها “الشاهول” وهو الجزء الكبير من المسبحة توضع فوقه “الكركوشة” وهي حزمة من الخيوط عند رأس المسبحة. 

يقول: “أنا أحب تنسيق خيط السبح مع لون الكركوشة لكن احياناً اصنع سبح أو أغيرها كما يرغب المشتري”.

أما الخيوط التي يستوردها حازم وبقية “الجراخين” من الصين فهي متنوعة كالخيط المطاطي وخيط القيطان المقاوم للقطع.

ويتم تزين المسبحة في بعض الأحيان بالمرجان ويكون شكله مثل حبة الشعير أو الحنطة أو على شكل حبات دائرية أو نجمية، وفي بعض الأحيان يطلب منه الزبون أن تكون الحبات ناعمة أو خشنة.

ليس حازم فقط من يعمل في هذه المهنة في سوق الهرج فمن رفقائه “سجاد الزبيدي” الذي يعمل في متجر الصغير على الضفة المقابلة لكشك حازم الذي يتوسط سوق الميدان الشعبي.

الشاب العشريني “سجاد الزبيدي” ورث المهنة عن أبيه الذي ورثها هو الآخر عن جده، وخلال عمله مع أبيه يومياً في المحل احترف سجاد بيع السبح وشرائها وصار يميز السبح الأصلية من التقليد بمجرد اللمس أو النظر إليها وتفحصها.

يبدو سجاد متشائماً بمستقبل مهنته إذ يرى إن “مهنة صنع السبح ستندثر بمرور الزمن وذلك لأن أغلب من يستخدم المسبحة اليوم هم من كبار السن وليس أبناء الجيل الحالي”.

في متجر سجاد يعثر الزائر على مختلف أنواع السبح، ويمكن لسجاد أن يميز بسهولة بينها، فسبحة “السندلوس” تتميز بعطرها الخفيف جداً على عكس مسبحة “التراب” التي تتفوق على “الكهرب” و”السندلوس” و”الكهرمان” برائحتها المميزة.

كما أن أشكال الحبات تتنوع بين بيضوي ومفلطح وبرميلي وكذلك “اسطنبولي” وهنالك حبات ذات شكل كروي كامل.

ولدى سجاد مسابح مصنوعة من اللؤلؤ والذهب والفضة والأحجار الكريمة أسعارها باهظة، لكن هناك سبح أخرى تصل أسعارها إلى خمسون ألف دولار للمسبحة الواحدة بحسب الخامة المستخدمة ومدى قدم تلك المسبحة.

يقول سجاد “يتواجد في السوق سبح أسعارها تبدأ من خمسمئة دينار عراقي إلى مئة و ثمانون ألف دولار واكثر من ذلك السعر أيضاً، فهي تعتمد على رغبة الزبون وقدرتة الشرائية ونوع الخامة”.

ويشير سجاد إلى أن تركيا من أكثر الدول المصدرة للمسبحة حيث يجمع أبناءها رابط قوي بالمسابح. “فالرجال الأتراك يستعملون المسبحة ويعتبرونها إكسسوار أساسي في النقاشات الطويلة والحماسية وقد تكون المسبحة الموضوع الأسهل لانطلاق الأحاديث في المقاهي التي يرتادها الرجال بشكل خاصّ أو النوادي الاجتماعية الفاخرة في تركيا”.

 وعلى الرغم من تزايد اهتمام المرأة بالمسبحة لكن تبقى المسبحة مجالاً يحتكره الرجل نسبياً بحسب التجار الذين قابلناهم.

في زقاق صغير بجانب السوق على الأرضية الخارجية لمتجر مغلق يفترش أبو علي قطعة من القماش على الأرض يعرض فيها مختلف أنواع السبح.

“أبو علي” الرجل الأربعيني الذي يتخذ من هذا العمل هواية وأيضاً وسيلة لكسب لقمة العيش شاهد خلال سنوات العمل مختلف أنواع السبح النادرة، منها التي صنعت في زمن الاحتلال البريطاني للعراق ومنها صنعت في زمن العثمانيين.

ويضيف أن “هناك سبح صنعت من مقابض المدافع والأسلحة المستخدمة في الحرب العالمية الأولى قبل أكثر من مئة عام، وهي جداً نادره كان يقوم بتصنيعها رجل ألماني مع زوجته وتم توقيف تصديرها بعد وفاته”. 

  وبحسب خبير السبح هذا “هناك كهرب مصنوع من شمع العسل تم تجفيفه قبل مئات السنين وأيضاً كهرب مفيد لمرضى السكري يتم طحن حياته الخاصة المصنوعة من شمع العسل ويجري تناوله مع الطعام”.

ولا تلتزم زغرفه الحبات لدى أبو علي بشكل محدد فمنها ما يسمى “عش العصفور” و”قصة البقلاوة الإسلامية” وأكثرها تميزاً هو “زنجيل وعين”.

أما وقت صناعة المسبحة الواحدة فيختلف من “چراخ” لآخر ويعتمد على مدى خبرة “الچراخ” والآلات المتوفرة لديه التي تحدد شكل حباتها مثل “الاسطواني” و”الحمصي” و”حبات الذرة” وكذلك “الشكل الماسي المضلع” الذي يطلق عليه في العراق اسم “الطراش”.

وسط هذه السوق المزدحمة يتفحص “أبو عباس” بيديه التي تتخلل كل أصابعها مختلف انواع الخواتم عدداً من السبح يقلبها وينظر إليها بتمعن.

أبو عباس الرجل الخمسيني الذي تحول بمرور الزمن من هاوٍ لاقتناء السبح إلى بائع يقول إن “بعض الزبائن مثل الباعة، يرغبون باقتناء السبح وشرائها ثم عرضها للبيع مره أخرى”.

وبخلاف “سجاد”، لا يعتقد أبو عباس بأن مهنة الـ “چراخ” آيلة للاندثار، إذ “لا تزال للسبح  قيمة مادية ومعنوية لدى الكثير من الناس سواء في اقتنائها لغرض التسبيح  أو للزينة كالحليّ، أو لبيعها والتربح منها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى