صنّاع البهجة في بغداد
بغداد- فاطمة كريم
يمكن إطلاق اسم “حي البهجة” على حي الفضل، أحد أقدم الأحياء المعروفة باحتوائها على مكاتب للفرق الموسيقى الشعبية في بغداد، فرق تستخدم آلات الطبل والبوق والدف وتتولى مرافقة حفلات الزفاف والمناسبات المبهجة.
الحروب والاضطرابات الاجتماعية التي توالت على العراق لم تنجح في تغيير هوية هذا الحي ولو أنها نجحت في إفقاده بعضاً من ملامحه، وفق ما يؤكده أصحاب الفرق الموسيقية المتواجدين فيه، ويضربون مثالاً بهجرة اليهود من العراق في خمسينيات القرن الماضي ومن بينهم أول الأشخاص الذين امتلكوا فرقة موسيقية في حي الفضل.
سعد عبد الملك من مواليد 1957 من سكان الحي يلقب بـ “سعد الملك” يدير منذ السبعينيات واحدة من أقدم الفرق أطلق عليها اسم “الملك” نسبة إلى والده الذي كان من أشهر عازفي آلة الجنجانة، وهي آلة يعتقد أن أصلها هندي تتألف من دوائر نحاسية يخلق ارتطامها ببعضها أصواتاً وإيقاعات.
يقول الملك: “عادت الفرق الموسيقية الى ممارسة نشاطاتها بعد أن اختبأت ما يقارب خمسة أعوام بسبب الأوضاع التي مرت بها البلاد في أوقات الحرب الطائفية خصوصاً خلال عامي 2005 و2006”.
ويتذكر بأسى تلك الفترة عندما كانت الفصائل المتشددة تستهدف الموسيقيين بالقتل والتهديد وتطلق عليهم لقب “عبدة الشياطين” وتعتبرهم “كفرة” و”مرتدين”.
على جدار محله علق سعد صورة لعازفين كانا يعملان في فرقته قتلا مطلع العام 2006 عندما بلغ العنف الطائفي أوجه، ذاكراً أن هناك أكثر من 300 فرقة شعبية كانت تعمل في بغداد معظمها ترك العمل خشيةً من الاستهداف، فانخفض عدد الفرق الى مائة فرقة بعد أن قتل اغلب العازفين.
ومع استقرار الوضع الأمني في السنوات القليلة الماضية عادت الفرق إلى نشاطها كما عادت لتحمل أسماء مقترنة بالفرح والبهجة مثل فرقة “الأفراح ” أو “المبروك ” أو “الأعراس”. وقد اعتاد العراقيون إحضار هذه الفرق للعزف في مناسبات الزواج والحج وحفلات الختان وكذلك عند نجاح أحد أبنائهم أو إحدى بناتهم في الامتحانات المدرسية أو تخرجهم من الجامعات.
الطقوس والعادات هي ذاتها إذ تأتي الفرق وتعزف الموسيقى المتعارف عليها في المنطقة أو الأغاني الشائعة، بينما يرقص الصغار والكبار وتوزع قطع الحلوى فوق الرؤوس فتكون مناسبة بهجة وسعادة ليس للعائلة المحتفية فقط وإنما للحي وأهالي الحي كُله، وتتقاضى الفرقة أجورها لقاء إحيائها المناسبة.
على أن الفرقة الموسيقية لا تكتفي بالأجر المتفق عليه بينها وبين أصحاب الحفل بل يحصل أعضاؤها على المزيد من النقود من الجيران والمعارف وكلما ازداد عدد الجيران المدعوين استمرت الفرقة بالعزف.
وغالباً ما يردد رئيس الفرقة بعد الانتهاء من أي معزوفة كلمة “شوباش” ليذكر الحاضرين بدفع النقود، و”شوباش” هي الكلمة كردية تعني حرفياً “ليلة سعيدة” لكن العازفين في هذه الفرقة صاروا يستخدمونها باستمرار لحث الحاضرين على دفع المزيد من النقود أو “البقشيش”.
أما في الأعياد الدينية كالفطر والاضحى، فتقوم الفرق الشعبية كل حسب منطقته الجغرافية بالتجوال بين الأحياء السكنية والعزف أمام باب البيت لدقائق، فيحصدون أجورهم لينتقلوا إلى البيت الآخر وهكذا.
يؤكد “الملك” ان أغلب اعضاء الفرق هم عازفون بالفطرة تعلموا من خلال التجريب والاستماع، بينهم قلة من المتعلمين والدارسين للموسيقى.
ويقول “صحيح أنهم غير دارسين للموسيقى لكنهم يجيدونها أفضل من الدارسين للأصوات والألحان، وهؤلاء الفئة يطلق عليهم سماعين”.
تختلف طبيعة المعزوفات واحياناً الآلات الموسيقية المستخدمة حسب المناطق، ففي بغداد تستخدم الموسيقى النفخية بأنواعها مع إيقاعات الطبول بينما تعزف هذه الفرق في المناطق الغربية من العراق موسيقى الدبكة “الچوبـي” الشعبية، وفي جنوب البصرة خاصة تعزف الموسيقى الخليجية التي تصاحب رقصات “الهيوة وليوة” ذات الأصول الإفريقية بينما تعزف الموسيقى الكردية في إقليم كردستان بواسطة المزمار والطبل.
ولا يقتصر نشاط هذه الفرق على المناسبات العائلية فقط بل ازدادت شعبيتها مؤخراً في الأعمال التلفزيونية.
يقول سعد الملك “شاركت فرقتي في العديد من الأعمال التلفزيونية كمشاركتنا في اغنية “كلنا العراق” للفنان حسين الجسمي وفي برنامج “ولاية بطيخ” وغيرها من الأعمال”.
والرغم من شعبيتها تواجه هذه الفرق الكثير من الرفض من قبل شرائح من المجتمع تعتقد أن الموسيقا “محرمة” دينياً، كما أن هناك فترات لا يعملون فيها مثل المناسبات الدينية كشهر محرم ورمضان المبارك.
ربيع شاكر محمود (52 عاماً) أحد اصحاب المحلات المجاورة لسعد عبد الملك، يطلق على فرقته اسم فرقة “شايف خير الشعبية” ويقول: “المتدينين لا يرضون بعملنا لكن ماذا نفعل؟ هم موجودون ونحن أيضا موجودون، وهذه هي الدنيا”.
ربيع بدا مستاءً من بعض الفنانين “الدي چي” الجدد ايضاً الذين بدأوا ينافسون الموسيقيين الشعبيين على مصادر رزقهم فيقول مثلاً عن واحدة منهن “هي مثلاً ليست عازفة وغير محترفة” وأضاف: “أما أنا فعازف بالفطرة أعزف عدة آلات موسيقية وهي الزرنه والترومبيت والساكسفون والكلارينيت والناي فصلا عن عدد من الآلات الإيقاعية”.
ويذكر أن فرقته متنوعة “تلبي كل الطلبات” على حد وصفه، “فلدينا فرقة اسلامية للأعراس الإسلامية والموالد وكذلك لتشيبع الجنائز وفرقة للمربعات البغدادية وفرقة ثالثة للموسيقا والأغاني اللبنانية”.
وحول أجور الفرقة يقول ربيع إن فرقته تتقاضى مبلغ 150 الف دينار عراقي وهنالك أسعار مختلفة لتأجير الآلات ومتوسط سعر ايجار الواحدة منها عشرة آلاف دينار عراقي.
ويشير مدير الفرقة إلى بعض نوافذ الرزق التي يحصل من خلالها على نقود إضافية، فيقول: “يأتي فنانون أو مغنيون يريدون استئجار الآلات من أجل تصوير فيديو كليب مثلاً أو بعض المشاهد ونحن نتعاون معهم”.
أما سعد “الملك” فيقول في حديثه للمنصة أنه يحصل على أرباح أيضاً من بيعه الدفوف الصوفية والرق التي يجيد صنعها من الصغر، ويضيف: “مكتبنا يلجأ حالياً إلى تأجير معدات الدي چي فهناك طلبات لأحياء الحفل بواسطة هذه الآلات الحديثة”.
وبعد سؤاله عن الأزمة التي مر بها حي الفضل خلال فترة جائحة كورونا أجاب: “كانت فترة صعبة جداً ولم نكن نخرج الى العمل إلا نادراً وانقطع رزقنا ولكن بين الحين والآخر كان الطلب يصل الينا من أهالي مرضى كورونا الذين تم شفاؤهم فنذهب ونحتفل بهم ولم يقتصر الامر على المرضى فقط وإنما على الأطباء الذين أصيبوا في المستشفيات أيضاً فنذهب ونغني ونعزف فرحاً بشفائهم”.
ويعتبر “الملك” أن هؤلاء الموسيقيين الشعبيين هم “صناع الفرحة” في في اغلب المناسبات الاجتماعية والخاصة في بغداد.
ويختم كلامه بالقول: “بأدواتنا البسيطة نحن قادرون على رسم الابتسامة على أوجه الجميع من حولنا وسنبقى محافظين على بهجة هذا الحي كما حافظنا عليها طوال عقود”.