إرث لم تغيره الحداثة.. “البرونايا” أقدم الأعياد الدينية

ميسان- مهدي الساعدي

عند ضفاف نهر الكحلاء المتفرع عن نهر دجلة شمالي مدينة العمارة يجتمع العشرات من الرجال مطلقي اللحى يرتدون ملابس بيضاء، في إشارة الى بدء طقوس أقدم الاعياد الدينية للصابئة المندائيين.

بحلول منتصف شهر آذار (مارس) الميلادي يحتفي الصابئة المندائيين بالبرونايا، أشهر اعيادهم الدينية والمسماة عرفا بـ “البنجة” إشارة الى عدد أيامها الخمسة، وهو عيد الخليقة “حيث خلق الله كافة المخلوقات” وفق المعتقد المندائي.

يقول زعيم المندائيين الروحي في مدينة العمارة رجل الدين الترميذا نظام كريدي للمنصة: “يمثل البرونايا بدء الخليقة الاولى، ففيه خلقت الارض وارتفعت السماء وانبثقت الحياة وجرت الأنهار، ونؤدي فيه الطقوس المندائية لذا يسمى عيد الخليقة وهو اول اعياد الاديان السماوية على وجه الارض”.

 واشتق اسم هذه الديانة القديمة في المنطقة من كلمة (صبا) بالمعنى الآرامي أي انغمس أو غطس في الماء، بينما ترجع سبب تسمية المندائيين الى كلمة (مندا) وتعني المعرفة او الحكمة، فيكون المعنى “العارفين بدين الحق” أو “المتعمدين” بحسب مختصين، وهم يعتقدون أن الخليقة اكتملت في خمسة ايام وتعد بالمنظور المندائي اياما بيضاء وتعتبر يوما واحدا.

ويشرح الباحث الديني المندائي خضر الزهيري للمنصة طبيعة الاعتقاد بهذه الأيام قائلا إن “البرونايا خمسة أيام طاهرة كأنها يوم واحد لا يشطره ليل، لذلك لا تدخل في عداد الزمن ولا تعد من الأيام ويجوز اقامة اغلبية الطقوس ليل ونهار، ولها موقع الصدارة بين المناسبات الدينية وتعتبر من انقى الايام واطهرها بالنسبة لنا”.

يحافظ المندائيون على طقوسهم الدينية حسب التعاليم التي يعتقدون بها، وينسبونها الى النبي يحيى بن زكريا آخر انبيائهم، ومنها “البراخا” وتعني الصلاة و “الصباغة” اي التعميد في المياه الجارية، وهم يرتدون ملابسهم البيضاء.

“الملابس التي نرتديها خلال اداء الطقوس الدينية لها قدسية في الديانة المندائية، من حيث رمزيتها ودلالاتها فنحن ورثناها من اسلافنا القدماء، وتمثل النور تيمنا بثياب النبي يحيى بن زكريا ويشترط ان تكون بيضاء مصنوعة من القطن حصرا، بما فيها العمامة والسروال كما نشد اوساطنا بحزام مصنوع من الصوف بطريقة يدوية، يسمى (هميانا)” يقول الترميذا نظام كريدي زعيم الطائفة الديني في ميسان للمنصة.

يكون اليوم الاول من ايام البرونايا خاصا بطقوس رجال الدين، ليتفرغوا بعدها لأجراء طقوس للعامة من ابناء الديانة، وهم يتلون تراتيل كتابهم المقدس “كنزا ربا” ونشر “الدرافشا” رمز المندائيين، والتي تمثل راية السلام التي يعلوها غصن الآس.

“تمثل طقوس الصباغة في الماء و وذكر الموتى واعداد الطعام (اللوفاني)، وعمل طقوس لكل من مات بدون مراسيم دينية (القماشي)، خصوصا يوم (الذخرانا) بمعنى تذكر الاسلاف وطراسة المندي بالاضافة الى (الرشامة) الوضوء، و (البراخة) الصلاة اهم طقوس البرونايا”. يقول الباحث الديني المندائي خضر الزهيري ل(المنصة).

يتولى رجال الدين المندائيين اقامة الطقوس الدينية لكل مندائي، وهم على درجات حسب مقومات وقياسات دينية خاصة تبدأ ب(الحلالي) ثم (اشكندة) تليها (الترميذا) وتعتبر (الريشما) اعلى الدرجات الدينية عند المندائيين، كما يشترط في رجل الدين دراسة اللغة المندائية لقراءة نصوص (الكنزا ربا).

عدنان عبد الجبار عضو مجلس شؤون طائفة الصابئة المندائية في ميسان، يبين أنه “لا توجد مدارس خاصة لتعليم اللغة المندائية، لأنها تحتاج الى تنظيم رسمي وتمويل مالي ورجال الدين يتعلمونها ممن هم اعلى منهم مرتبة لأجل قراءة النصوص الدينية”.

لكنه يؤكد وجود العديد من دارسي اللغة في المحافظة لأجل اتقانها، و”يستطيع اغلب المندائيين كتابة وقراءة بعض الكلمات باللغة المندائية وليس اتقانها بشكل كامل”.

وبحسب مختصين في اللغات القديمة، المندائية لهجة يعود تاريخها إلى نحو القرون الأولى، تفرعت من اللغة الارامية التي كانت تستعمل حينذاك كما تفرعت منها  أربع لهجات أخرى إحداها السريانية، أي أن كلا اللهجتين السريانية والمندائية تفرعتا من الآرامية.

رئيس طائفة الصابئة المندائيين الشيخ ستار جبار الحلو يبين في تصريح اعلامي تابعته المنصة أن “الصابئة هم من أقدم الأديان، ولكن بسبب كتابة كتبهم المقدسة بالآرامية وعدم ترجمتها انزووا قرب الأهوار والمياه الجارية لحاجتهم للتطهير، وأنهم يتحملون هذا الأمر بسبب المفاهيم الخاطئة، التي كانت تؤخذ بحق الصابئة حتى تمت ترجمة كتبهم المقدسة، فاستطاع بعض المتشككين فهم أننا موحدون لله”.

اسهم المندائيون وبسبب عمق تواجدهم في ميسان وبشكل فاعل في حفر اسماء الكثير من شخصياتهم في ذاكرة ابناء المدينة، فضلا عن تصدرهم للمشهد العراقي في تخصصاتهم، منهم عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله، والشاعرة لميعة عباس عمارة، وعالم الفلك عبد العظيم السبتي والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد وآخرون.

يقول عالم المسماريات البروفيسور نائل حنون للمنصة: “الأخوة الصابئة المندائيون أهلنا وفي العمارة نشأنا وعشنا معهم بكل محبة، ومن المعلمين الذين درسنا على ايديهم وكنا نجلهم، وشخصيا كانت علاقتي وثيقة بالمرحوم الاستاذ غضبان الرومي حتى وفاته، وكان من القلة الذين يقرأون النصوص المندائية”.

حظي عيد “البرونايا” بزيارات على مستوى رسمي حكومي عال، الى (مندي) الطائفة في العاصمة بغداد منها زيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي، لتقديم التهاني لأبناء الطائفة بمناسبة حلول عيدهم.

وتناقصت اعداد المندائيين في السنوات الأخيرة بسبب هجرة العوائل المستمرة الى بلدان اوروبا وامريكا لأسباب مختلفة، ولا زالت اعداد من تبقى منهم غير معروفة بسبب عدم وجود احصاءات رسمية يمكن الاعتماد عليها، لكنهم اليوم يقيمون طقوسهم بكل اريحية وسط تفاعل ايجابي من ابناء الديانات والطوائف الاخرى.

يقول الكاتب والمدون الميساني احمد الحلفي للمنصة: “اليوم وعلى الرغم من قلة اعداد ابناء الطائفة المندائية في ميسان، والعراق على وجه العموم ولعدة اسباب، الا انهم مكون مهم من مكونات البلد وطيف من اطيافه، يشاركونه افراحهم واحزانهم فضلا عن الذود عنه في كل الملمات”.

ويكمل حديثه بالقول: “مقابل هذا فالصابئة المندائيون يمارسون كل طقوسهم بحرية تامة متحابين متآخين مع باقي اطياف الشعب تحت سقف ييت واحد اسمه العراق”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى