سوق “هرج” في بغداد.. بحثاً عن كل شيء نادر
بغداد- فاطمة كريم
“لو بحثت عن إبرةٍ تجدها فيه ولو بحثت عن جملٍ تجده فيه”، هكذا يصف أهالي بغداد “سوق هرج” المعروفة ببيع البضائع المستعملة في الجانب الشرقي من العاصمة وسط أحياء الرصافة القديمة.
وتعني كلمة “هرج” بالعراقية الدارجة الحديث الصاخب والفوضى، وهو ما ينطبق بالضبط على أجواء السوق القريبة من حي الميدان والواقعة بين أبنية متهالكة تصارع البقاء.
يمتد تاريخ السوق إلى فترة الحكم العثماني، أي أن عمرها يتجاوز الثلاثة قرون بحسب مؤرخين، أما الزبائن فلا يلتفتون إلى قيمة المكان التاريخية بقدر التفاتهم إلى ما يعرضه من بضائع متنوعة.
فعندما تحتاج الى أي شيء بدءاً من مستلزمات المنزل مروراً بمعدات البناء وأكثر الأجهزة الالكترونية والأجهزة القديمة والأنتيكات فلا بُد من أن تتجه إلى سوق هرج.
وليس شرطاً أن تكونَ زيارة السوق لغرض البحث عما يبتغيه الزائر من حاجة لا يجدها في مكان آخر، بل إن مجرد المرور دخولاً من شارع الرشيد وخروجاً من جهة الميدان يشكل متعة حقيقة بالنسبة لكثيرين من أهالي العاصمة.
فالتجول بين كل ما هو مستعمل من أجهزة الراديو والتلفزيون والساعات القديمة والسبح ومحلات الملابس المستعملة وقطع الأثاث التي تحولت الى انتيكات واللوحات الفنية والمنحوتات وغيرها من الأغراض القديمة والمستعملة، تشبه رحلة “العبور في الزمن” كما شبهها أحد الزبائن مؤكداً أن مجرد العبور من هنا يجبر الزائر على التوقف والتأمل، وغالباً الشراء.
محمد كاظم طالب في كلية الفنون الجميلة وأحد الأشخاص الذين يترددون إلى السوق بشكل مستمر منذ أكثر من خمس سنوات مع زملاء له في الكلية، يقول للمنصة: “اتواجد هنا بالتحديد كل يوم جمعة، أتبضع بعض النواقص التي احتاج إليها وأهمها ملابس البالة وبعض اللوازم الخاصة بالرسم وبتنفيذ الأعمال الفنية”.
يقاطعه مصطفى وهو زميل محمد في كلية الفنون قائلاً: “محمد هو الذي شجعني على التردد إلى هذه السوق، يصحبني معه كل اسبوع إلى أن اصبحت لا استطيع التبضع إلا من هنا، فكل شيء جميل ومختلف، والقطعة التي اشتريها من هنا لا يرتديها أحد سواي، وهذه ما يميز السوق برأيي”.
وتعد سوق “الهرج” من معالم بغداد الرئيسة، يزورها كثر من محافظات أخرى، خصوصاً أن غالبية أسواق المدينة التقليدية قد اختفت معالمها أو وظائفها خلال العقود الثلاثة الماضية مثل سوق الصفافير أو سوق شارع الرشيد، أما سوق هرج فبقيت متمسكة بطبيعتها وطبيعة البضائع التي تعرضها.
في جولة “المنصة” تعرفنا على أحمد فاضل من مواليد عام 1970 يمتلك إحدى أقدم ورش صناعة الفضة والأحجار الكريمة، تعلم هذه الصنعة على يد والده منذ أن كان في الثالثة عشر من عمره، وإلى الآن لم يغادر هذه السوق رغم كل الظروف التي مرت عليه.
أحمد الحاصل على شهادة بكالوريوس في الإدارة والاقتصاد يقول “يأتي إلى محلي كبار الشخصيات من السياسيين ووجهاء شيوخ العشائر من مختلف المحافظات، ألبي طلباتهم واحياناً يتركون الاختيار لي”.
وتتميز سوق “هرج” برخص أسعار بضائعها بالقياس مع أسواق أخرى، لكن زائريها لا يقتصرون على الطبقة الفقيرة أو الوسطى فقط بل يشملون مختلف الشرائح نظراً لما تمتلكه السوق من بضائع متنوعة.
كمال عبدو الذي كان يجذب الناظرين إليه بوجهه البشوش وأناقته الملحوظة كان يضع أمامه عدد من الساعات على طاولة صغيرة وينظر إليها وكأنه يحسب ما مضى من عمره، وإلى جانبه يجلس صديق له وصفه بـ “صديق العمر”.
يتواجد كمال عبدو في هذه السوق منذ أكثر من ثلاثين عاماً رغم مشاغله والتزاماته الأخرى، فهو بطل في المصارعة حصل على أربع جوائز عالمية في هذه الرياضة، كما أنه يشغل الآن منصب المدير الفني للمنتخب العراقي.
ورغم التزاماته الكثيرة إلا أنه لا يترك يوم عطلة الا وقد ذهب الى السوق ليفتتح كشكه الصغير الذي يجد سكينته فيه. يقول “هنا أجد راحتي، فرغم زيارتي الى أغلب دول العالم تبعث ضوضاء هذا المكان هدوءاً في قلبي”.
يحمل كمال في عيونه الكثير من الحُب تجاه بغداد، وكثيراً من الخيبة والحسرة على ما حل بأسواقها ومعالمها التاريخية من خراب، لذلك يرجو بأن تكون هناك “حملة إعمار” لهذه السوق تعيد إليه ألق الماضي.
أما “العم ابو علي” صديق كمال وزميله في تصليح الساعات، فيتدخل في الحديث كاشفاً لنا عن واحدة من أقدم الساعات التي جُلبت إليه ليصلحها، تعود إلى الملك الأردني الراحل طلال بن عبدالله بن الحسين، يقول مازحاً: “أنا ملك الساعات في هذه السوق واتحدى الجميع في منافستي”.
في هذه السوق توجد جميع الحاجات وكل بضاعة تختلف عن الأخرى، وكل بائع يتفنن في عرض ما لديه وما يميزه عن غيره، وتزدحم السوق بالناس بشكل خاص في أوقات العطلة.
وهناك من العابرين من يأتي لغرض الشراء وهناك من يأتي لمجرد التمشية والترويح عن النفس، فيتفرج على كل ما هو قديم ويمر بالمقاهي الشعبية التي تضم أحد أقدم المقاهي التراثية “مقهى البلدية” الذي غنت به أم كلثوم عام 1935 عندما قدمت إلى بغداد.
هذا المقهى بالتحديد علامة من علامات السوق التاريخية التي يذكرها أصحاب المحلات ويتداولون قصصاً عنها سمعوها من آبائهم أو أجدادهم. وتخليداً لتلك الحادثة أقيم قريباً من السوق مقهى “كوكب الشرق أم كلثوم” الشهير الذي يستمتع رواده بالأغاني النادرة لهذه الفنانة الكبيرة الراحلة.
صخب المكان لم يدفع ساكنيه إلى المغادرة ولم تغر مرتاديه بقية الأسواق الحديثة، فكأن “هرج” سوق أمان وراحة بال لأهالي بغداد، وسوق للتذكير بتراثهم العريق، وكأنهم يعاهدون على إحيائها والبقاء فيها مهما طرأ عليها وعليهم من ظروف وتحولات.