أسواق البالة في بغداد.. كنوز تختبئ بين الأزقة 

بغداد- زينب هتيمي

أيام من القلق عاشتها الطالبة الجامعية فاطمة أحمد وهي تفكّر كيف تتدبّر شراء الزي الخاص بحفل تخرجها، قبل أن يخطر ببالها الذهاب إلى سوق البالة في حي الكاظمية علها تجد هناك ضالتها.

وبالفعل وبينما كانت تتجول في السوق وقع نظرها على بدلة تخرّج كان سعرها ألفي دينار عراقي فقط، كانت على حد وصفها “بدلة جديدة وجميلة تفي بالغرض”.

فاطمة التي تعتمد بدرجة كبير فيما ترتديه على ما تقتنيه من سوق البالة تقول “لم يكن لدي المال الكافي لشراء الزي الرسمي من متاجر الملابس الجاهزة ولولا سوق البالة لكنت وقعت في حرج كبير أو اضطرت لاستدانة المال”.

أسواق عديدة

ما أن تبدأ ساعات الصباح الاولى حتى تضجّ سوق البالة في الكاظمية بأصوات الباعة وبالناس يتحلّقون حول البسطيات. “اثنين بالف.. اثنين بألف.. لحك على الحاجة الزينة .. لحك على الحاجة الزينة” هكذا يبدو صراخ أحد أصحاب البسطات محاولاً جذب الزبائن، لكنه صراخه بالكاد يسمع، يزاحمه نداء بائع آخر يقف خلف بسطية مجاورة.

وتتوزع أسواق البالة في مناطق عدة في العاصمة بغداد يقصدها زبائن حتى من بقية المحافظات منها سوق باب الشرجي وسوق مريدي وسوق بغداد الجديدة وسوق مدينة الكاظمية الذي ينقسم الى مكانين.

فهناك ما يعرف بساحة البالة وتبدأ من جامع الحيدري وتنتهي عند باب الدروازة وتكون بضاعتها عالية الجودة، منها ملابس رجالية ونسائية وملابس أطفال إلى جانب بسطيات ودكاكين مختصة بألعاب الأطفال لاسيما التعليمية. 

أما سوق باب المعظم فيبدأ من فلافل الحلوة وصولاً إلى شارع المحيط وتقدر أعداد محاله التجارية بمائتي محل في أزقة متعددة ويحتوي على ملابس نسائية حصراً بأسعار زهيدة.

متاهة السوق 

إن لم تكن من رواد سوق البالة قد يصعب عليك الخروج من دهاليزها خصوصاً في بعض الأزقة التي تنتهي بممرات ضيقة، كما أن شناشيلها التي ما زالت محافظة على شكلها التراثي تحجب عنك جزءاً من الضوء.

لكن أكثر من يميز السوق هو غياب ضجيج السيارات فالأزقة لا تتسع حتى لدراجة هوائية أو نارية والجميع يسير على قدميه، معظمهم أسرٌ من ذوي الدخل المحدود مع أطفالهم الذين يتقافزون ويلعبون وبيدهم بعض السكاكر. 

أثناء تجوالنا في السوق قابلنا فتاة في عقدها الثاني، كانت تمرر يدها على أكثر من قطعة ملابس معلقة في المتجر، تنتقي ما يعجبها وتجمعه على يدها الأخرى، تذهب وتضعها عند البائع ثم تعود مرة أخرى وتنتقي المزيد. هذا حال معظم الفتيات هنا في السوق.

سماح مجيد التي تدرس في كلية الاعلام جامعة بغداد توضح أن ميزانيتها المحدودة تدفعها للشراء من هنا وليس من متاجر الألبسة الجاهزة، وتقول: “الأن الأسعار مرتفعة في الأسواق التجارية، صحيح أنها ارتفعت في البالة أيضاً  لكن ثمن قطعة ملابس واحدة من السوق التجاري يكفي لشراء أكثر من قطعة ملابس من سوق البالة”. وتضيف: “بضائع سوق البالة معظمها من ماركات عالمية وخامتها جيدة تعيش مدة أطول”.

أما فاطمة التي اشترت زي تخرجها من سوق الكاظمية فتوضح أن أسعار البالة ارتفعت عموماً في الفترة الأخيرة بحكم أنها بضائع  مستوردة، بسبب انخفاض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي لكنها تستدرك أن “أسعار البالة تبقى لا تقارن بسعر الجاهز”.

“ستايل” خاص

يعمل صهيب في سوق الكاظمية منذ أحد عشر عاماً، يخطو في محلة الذي يطل على زقاقين بينما  تنتقل يداه بخفه بين الملابس. يتحدث عن عمله قائلاً: “بدأت العمل هنا بفضل خالي. لقد بدأ خالي حياته بالعمل على بسطية بالة.. اليوم صار لديه عدة محال هنا وأنا أعمل معه كشريك له في هذا المكان”.

صهيب وهو خريج كلية ادارة واقتصاد ويحمل شهادة ماجستير في المحاسبة أوضح أن تغيرات عدة طرأت على السوق في السنوات الأخيرة، فلم تعد البالة ذلك المكان الذي يرتاده الفقراء بسبب العوز وشحة الموارد إنما أصبح العديد من ابناء الطبقة المتوسطة يتجولون في أروقة السوق بحثاً عن بضاعة تناسب اذواقهم أو لأسباب أخرى أبرزها ارتفاع الأسعار وانتشار ثقافة إعادة التدوير. 

يقول صهيب إن “أكثر زبائننا من طلبة الجامعات الذين يبحثون عن النوعية الجيدة والماركات العالمية والأسعار المناسبة” ويضيف أن “أكثر المواسم التي يتردد بها الطلبة هو موسم الشتاء، ويزيد الطلب فيه على المعاطف والبلوزات والأحذية الشتوية”.

وتختلف آراء الناس حول سوق البالة فهناك من يتخوف منها كونها بضاعة مستعملة من الممكن أن تحتوي على عيوبٍ أو تنقل أمراضاً. بالمقابل هناك من يعثر فيها على “ستايل” خاص به لاسيما فئة الشباب وطلبة الجامعات. وهناك أيضاً من يرى أن أسعار سوق البالة منخفضة نسبياً في ظل ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية لدى معظم سكان البلاد.

مثلاً الشابة سماح تفضل شراء الاكسسوارات حصراً من البالة مؤكدة أن زميلاتها في الكلية يبدين إعجابهنّ بالقلائد والأساور التي تلبسها. تقول سماح: ” بعد انتهائي من الملابس اذهب مباشرة الى بالة الاكسسوارات ومهما كان المبلغ الذي اخذه معي لا يبقى منه شيء لكثرة ما اشتريه”.

وتتابع: “ما يميز الاكسسوارات هنا أن لونها لا يتغير نهائياً وبعضها يكون من الفضة، لكن عملية الشراء تتطلب البحث الجيد للحصول على قطعة مميزة”. 

أما فاطمة فتذكر أنها قبل زيارتها البالة منذ نحو خمس سنوات كانت تحذّر صديقاتها من الشراء من السوق، “كنت حينها معترضة على الذهاب الى سوق البالة لاعتقادي بأنها مصدر للكثير من الأمراض لكن فيما بعد تبدلت وجهة نظري تماماً وأصبحت لا انقطع عن الذهاب إليها”.

نظرة المجتمع

بحسب صهيب وتجار آخرين في السوق كانت البالة قبل العام 2003 أكثر انتعاشاً من اليوم لأن بضاعتها كانت تدخل البلاد دون رسوم جمركية باعتبارها مساعدات إنسانية فكانت أسعارها منخفضة، أما الآن فاختلف الأمر وصار سوق البالة يتأثر بسعر الدولار الأمريكي.

يضيف صهيب: “قل عدد الزبائن خلال أيام الأسبوع وبات السوق يزدحم في ثلاثة أيام فقط هي الخميس عصر ويوما الجمعة والسبت، أما في العطل الرسمية والدينية فيتردد علينا زبائن من المحافظات الأخرى”. 

وتنقسم بضائع البالة إلى نوعين منها ما هو مستعمل ومنها ما هوه جديد يطلق عليه تسمية “تصفية مولات” ولها عدة مصادر كالألماني والأمريكي والخليجي وحتى الكوري.

وتؤكد سماح أنها تتردد على محالّ محددة تبيع بضائع ألمانية نظراً لجودتها العالية، وتضيف: “بعد شرائها أقوم بغسلها وتعقيمها ثم أرتديها في الجامعة فيعتقد الجميع أنها من متاجر امازون” 

أما فاطمة فتذكر أنها كانت تخجل أن تقول أنها تشتري من سوق البالة خوفاً من الانتقادات ونظرة المجتمع، “لكن الآن لم أعد أهتم بذلك خصوصاً وقد علمت أن الكثيرين يتسوقون من البالة”. 

قليل من الهدوء 

حان وقت الغداء ويبدو أن الجميع بدأ يفكر يتناول وجبته من نفس المكان. أحدهم كان يسأل آخر: “ماذا تريد أن أحضر لك من عند أبو رعد؟” فمطعم “الحاج أبي رعد” يوفر المأكولات الشعبية من جميع صنوف الأرز والمرق العراقي، تطبخه زوجته وابنته في منزلهم ثم يصل إلى أفواه معظم الباعة في سوق الكاظمية. 

هي لحظات قليلة من الهدوء تعيشها السوق المزدحمة، فما أن ينتهي الباعة من طعامهم حتى يبدأ صوت “خرخشة” استكانات الشاي ورائحته التي تملأ المكان مع تساقط حبات المطر.. ينتهون من شربه ويعود كل منهم للنداء على بضاعته.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى