النساء السود بين التنمر والمواجهة.. “هذا لوني، تقبلوا اختلافي وكفى عنصرية!”
البصرة- نغم مكي
“تحبذ أمي مناداتي بغير إسمي فبرأيها الألقاب تلائمني أكثر. أحياناً تنعتني بالصخلة ومرة تناديني يا فحمة وكثيراً ما تلقبني بالعبدة. بالنسبة لها “زينة” هو خطأ وجب تصحيحه حتى في الأوراق الرسمية”، هكذا تصف زينة لفتة ذات العشرين عاماً معانها مع التمييز ضدها بسبب لون بشرتها، حتى من قبل أفراد أسرتها.
تروي زينة أن أحداً من أترابها لم يشاركها في اللعب في مرحلة الطفولة بسبب لون بشرتها الداكن، ولطالما كانت تنزوي لوحدها وتشاهد ضحكات الاطفال واستمتاعهم. “كنت أنظر لكف يدي فأمقت لون بشرتي وأتمنى لو أختفي من هذا العالم الذي يعاملني بقسوة”.
دخلت زينة الحياة الجامعية ومعها ذكريات الطفولة المؤلمة، إلا أن أمها لم تغيرمعاملتها لها، فشراء منتجات تفتيح البشرة والنصائح بتجنب “الاكلات المسببة للاسمرار” كان شغلها الشاغل.
وعند أعتاب الجامعة ينتظر زينة تنمر آخر يبدأ بمزاح ثقيل من أحد زملائها: “اليوم مظلمة” مع نظرة استهزاء تهمكاً على لون بشرتها المندمج مع لون الملابس. لم تنطق زينة بحرف واكتفت بابتسامة تخفي شعور الحرج والألم في داخلها.
في بقعة أخرى من مدينة البصرة تخرج “كريمة” من صندوق ذكرياتها ما سمعته من ألفاظ التنمر أيام طفولتها. الألقاب نفسها التي سمعتها زينة وصلت إلى أذن كريمة، وبرأيها المجتمع يحبذ ترديدها بكل سهولة من غير مراعاة لمشاعر الآخرين معتبراً تلك المصطلحات مسلم بها، “فأنتم عبيد لا داعي للزعل” هكذا كان يقال لها وكأن سواد البشرة عار عليها أن تحمله مدى الحياة.
تتصفح كريمة خميس المبارك، 62 عاماً، دفتر الذكريات المختوم بالتنمر وتتحدث بغصة عما كان يحصل في شوارع المنطقة الشعبية التي كانت تعيش فيها، إذ ما أن يتخاصم الاطفال حتى تكشر العنصرية عن أنيابها.
أمام الدور المصطفة بتلاصق كانت كريمة تلعب مع ابن الجيران وعندما خسر الأخير بدأ يتفوه بما خبأه من غيظ، “يا عبدة”، تسمعه أمه الواقفة خلف الباب، تنهره بصوت خافت “اسكت نحن العبيد وليس هم”.
لم تفهم كريمة ما سمعته من أم رفيقها في اللعب حينها وبمرور السنين يتضح أن جيرانها كانوا بالفعل مملوكين لبيت أحد العوائل الكبيرة التي هاجرت الى الكويت بينما جد كريمة لم يستعبد مطلقاً، لكن وسم العبودية أطلق فقط على سود البشرة.
تغيير المدن لا يعني اختلاف العقول فالقصة تتكرر نفسها مع خلود عند انتقالها لمدينة تكريت، وستجلب لها معاناة تؤرقها وتسبب لها القلق على أبنائها الأربعة.
خلود لطفي الصگري، امرأة في منتصف عقدها الرابع زوجة وأم لأطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و10 سنوات واجهوا أسوأ أنواع التنمر والعنف جسدي على حد وصفها، بدوافع عنصرية.
تروي خلود أن بعض أهالي المدينة منعوهم من دخول المتنزه العائلي والاختلاط مع اطفالهم بسبب لون بشرتهم، كما طعنوا بنسبهم ووصفوهم بـ”أولاد الحرام” لأنهم سود، ولم تشفع دموع الأطفال الأربعة وخوفهم ورفضهم الخروج لأي مكان من الحد من التنمر.
“كل الأماكن رفضت الاندماج معهم رغم جهودي لحمايتهم بشتى الطرق” تقول بحسرة، فالتنمر يطالهم حتى في المدارس، لذا قررت خلود الشكوى لإدارة المدرسة كما قررت أن تكون “درع حماية لهم”، ترافقهم في جميع الأماكن التي يخطوها.
لون البشرة أهم من المؤهلات العلمية
رغم أنها في ريعان شبابها ورغم مؤهلاتها العلمية كريمة لا تقبل في وظائف تستحقها، فلون بشرتها لا يطابق معايير العمل.
تبلع ريقها ثم تحاول ان تكمل كلامها: “لم يكن غريبا أن أواجه بالرفض حين أتقدم للعمل لأسباب غير منطقية في كل مرة فهم لا يملكون الشجاعة لقولها بوجهي: انتي سوداء لا تصلحين للعمل مهما امتلكت من مؤهلات”.
وتستدرك “الأمر مختلف في المؤسسات الحكومية حيث المؤهل والشهادة هما الاهم لكن تبقى رواسب التفكير العنصري موجودة”.
التنمر والعنصرية بحق كريمة خلقا لديها تحدياً أكبر للوصول لطموحها وجعلها تشغل منصب معاون طبي بالقطاع الاول فضلا عن عملها متطوعةً في منظمات المجتمع المدني منذ سنة 2003، وبنفس الوقت هي صحفية لديها مقالات في عدة صحف محلية وقومية، وتشغل منصب مسؤولة الصفحة السياسية في إحداها، كما تعمل إلى جانب كل ذلك مسؤولة إداريةٍ في مركزٍ تخصصي للتوحد.
د.سعد سلوم وهو خبير في شؤون التنوع في العراق ومؤسس معهد دراسات التنوع الديني يقول: “لا شك أن النساء ذوات البشرة السمراء أو السوداءيعانين نوع من التمييز المركب” ويصنفهن على أنهن “ينتمين الى اقلية ثانية الى جانب حياتهن المليئة بالتعقيدات والتحديات”.
ويؤكد سلوم أن “التمييز موجود وموثق وله تداعيات على اولئك النساء كأفراد كما له تداعيات سلبية على المجموعة كأقلية بشكل عام من ناحية فعاليتها وإنتاجيتها وكفاءتها ومشاركتها بالحياة العامة ومشاركتها في سوق العمل وصولا الى مشاركتها السياسية”.
وتتفق زينب كرملي وهي ناشطة مدنية وممثلة عن الاقلية السمراء في عموم العراق على أن “هناك تفرقة واضحة تجاه النساء السود بالتعيين في العمل، فمهما امتلكت الواحدة منهن من شهادات علمية تتعين بمكان متدنٍ أو لا تتعين بسبب لون بشرتها”.
وتتابع أن الأمر نفسه ينطبق على المدارس، “فأثناء النشاطات لا يقع الاختيار على الفتيات السود” وكذلك في تسلم المناصب العالية، “فحتى وان حصلت عليه لفترة قصيرة سرعان ما تستبدل بامرأة أخرى”.
حالة يرفضها المجتمع
تعتبر كريمة زواجها من شخص ذي عرق مختلف كان زواجاً ناجحاً، لكنها برأيها “إنها حالة نادرة نسبتها قليلة في المجتمع”.
وتنصح زينب كرملي النساء بصورة عامة بالتفكير ملياً قبل الاقدام على هكذا زواج “لما قد يترتب عليه من عواقب ورفض اجتماعي وعنف في مجتمعنا” بحسب رأيها، ضاربة المثال بما حدث لإحدى النساء المتزوجات من رجل أبيض تعرضت لعنف جسدي ولفظي ونفسي من ذوي زوجها وتهديد الأخير بطرده وإقصائه من العشيرة إذا ما رفض التخلي عن زوجته وأطفاله.
ويشير د. سعد سلوم إلى عدم وجود إحصاءات رسمية لعدد النساء السود فالأمر “مجرد تخمينات” سواء ما تنشره التقارير الدولية أو المنظمات المحلية.
لكن يمكن القول إن النساء ذوات البشرة السمراء يمثلن اغلبية كبيرة في هذه الاقلية أسوة بالنساء من المكونات الأخرى، ففي السنوات الـ 17 الماضية مرت البلاد بمراحل من العنف أدت لاستهداف الرجال ووفاتهم وتراجع نسبهم مقارنة مع النساء.
القانون والعنصرية
ويوضح الباحث والناشط العراقي الحائز عام 2022 على جائزة ابن رشد للفكر الحر، أن الدستور العراقي الدائم لعام 2005 هو “دستور مبادئ لا دستور ضمانات” وإن كان يقدم مواد تنص على الحماية ضد التمييز كما هو الحال في المادة 14 لكن “تلك المواد لم تتحول لتشريعات تضمن عدم التمييز على اساس ديني او عرقي او قومي يكفل المساواة بالفرص”.
وتخلو البيئة التشريعية العراقية من وجود قوانين تضمن المساواة وتكفل عدم التمييز وتكافؤ لفرص لهذه اللحظة الراهنة بحسب سلوم، و”هذا يترك العديد من المجموعات السكانية الضعيفة تحت ضغوط كبيرة وتجردها من الحماية القانونية والفعلية الكافية”.
أما كريمة فتؤكد على لعدم وجود قانون حماية للنساء، “حتى وان ذهبن لمركز الشرطة بسبب الاعتداءات المختلفة التي قد تصل للاعتداء الجنسي لكونها سمراء لا تتلقى الحماية الكافية ويجب عليها ان لا تتحدث بذلك خوفا من الفضيحة” وتخص منهن النساء العاملات في السخرة والبيوت، فهن “الأكثر عرضة للعنف بأنواعه وشكواهن لا تثمر نتيجة عدم وجود قانون يضمن حقوقهن”.
وتتابع كريمة: “لم تكن تسجل حالات العنصرية ضد النساء السود سابقاً لعدم توفر مؤسسة حكومية تهتم بذلك وكنا نكتفي بسماع الشكوى شفهيا وثم نقوم بإرسالها إلى أحد المحامين والمحاميات، وعن طريق منظمتنا كنا نقوم بتسجيل حالات مختلفة”.
زينب كرملي تقول إن العديد من الحالات كنا نسمع بها من خلال الحوارات الخاصة والورش المختلفة وهو ما أسميناه “العيادة القانونية الخاصة بالنساء السود التابعة لمنظمتنا” في محافظة البصرة، إذ دأبت المنظمة على فتح هذه العيادة المجانية لسماع شكواهن وتدوينها وإرسالها إلى مكتب حقوق الانسان في محافظة البصرة.
إلا أن الشكاوى لا تأخذ بعين الاعتبار عندما تقدم للمحاكم، تضيف زينب، إذ “لا يوجد قانون يحمي النساء السود أو غيرهن وبالتالي ليس هناك اجراءات وقائية أو عقابية تتخذ ضد التمييز العنصري”.
وتبقى الجهود بحسب كرملي فردية وتعاونية بين مختصين، إذ “تعمل منظمتنا على استضافة النساء والتحدث معهن بوجود باحثة اجتماعية متخصصة وتوعيتهن والتخفيف النفسي عنهن”.
المنظمات والجهات الرسمية
رشحت زينب كرملي لتمثيل الأقلية السمراء في عموم العراق وتم اختيارها مستشارة لتحالف الأقليات العرقية العراقية بشبكة تحالف الاقليات في اقليم كردستان، وهي ناشطة تعمل في الدفاع عن حقوق هذه الأقلية منذ 2004.
وتؤكد زينب أن منظمة واحدة فقط تنشط حالياً من أجل قضية ذوي البشرة السمراء تحديداًَ هي “جمعية انصار الحرية” مقرها في الزبير، لكنها ذات انشطة محدودة وعدد العاملين بها لا يتجاوز 7 أشخاص.
في حين يقول د. سعد سلوم أن تعاطي الجهات الرسمية سواء على المستوى الاتحادي (كالحكومة المركزي والبرلمان) أو على مستوى الحكومات المحلية في المناطق التي يشكل بها السود اغلبية يجب أن إيجابياً وأن تتعامل هذه الجهات بروح الشراكة مع المنظمات المعنية بالدفاع عن هذه الفئة التي تعرضت للتهميش والتمييز طوال عقود.
ويبين أن هناك نمطين من المنظمات التي تدافع عن ذوي البشرة السوداء، “فهناك منظمات تتعامل وتدافع مع حقوق الاقليات بشكل عام ومن ضمنها حقوق ذي البشرة السوداء وهناك منظمات تمثل هذه الاقلية والتي في العادة يكون مجال نشاطها في المناطق التي يشكلون فيها عدداً وازناً”.
وكلا النمطين يوضح سلوم بحاجة للدعم من الجهات الرسمية، للوصول الى تكامل وفعالية كي لاتحرم هذه الاقلية من ان تكون منتجة في المجتمع بما يكفل تعزيز المجال العام وتعزيز الهوية التعددية للبلاد”.
تغيير النظرة
تتفق السيدتان كريمة وخلود على أن “التغيير يحصل اذا غيرت الناس نظرتها للشخص فلا تعتبره اقل منها بسبب عرقه أو جنسه أو دينه والا سيبقى الوضع على حاله”.
وترى كريمة أن هناك تقصيراً لدى المؤسسات الدينية والإعلامية في تناول موضوع التمييز العنصري وبالتالي من الصعب تغيير وجهة نظر المجتمع ما دامت كلتا المؤسستين غير فعالة في مناهضة التمييز العنصري.
أما زينب كرملي فتطالب بسن قانون لحماية ذوي البشرة السودا وبتثقيف المجتمع وتوعيته الدائمة من خلال النساء ونفسهن ومن خلال النشاط الذي تقوم به المنظمات الفاعلة في هذا المجال.
هذه المادة انجزت ضمن برنامج صحفي من تنظيم الجامعة الاميركية في بيروت ودعم من منظمة IMS