فقد بصره دون بصيرته.. العم جاسم يواجه حياةً مظلمة      

مهدي غريب _ بغداد

يستيقظ العم جاسم من سريره على صوت آذان الفجر وهو يصدح عالياً، يتوكأ على عصا خشبية لكي ينهض، يَتَلمسُ كل الأشياء دونَ طلب المساعدة من أفراد اسرته، يتوضأ ومن ثم يصلي، وبعدما يكمل وجبة الإفطار الصباحية التي يعدها بنفسه ينطلق إلى عمله اليومي في تصليح الدراجات الهوائية.

العم جاسم المُلقب بـ “أبو نصيف” أُصيب بِمرض رَمَد العين وهو لم يبلغ الثانية من عمره فانطفأ بصره إثر تلك الإصابة دون أن تُطفأ بصيرته، ليكمل درب الحياة بصورةٍ طبيعية.

يتذكر الرجل الثمانيني كيف دخل بحالةٍ نفسيةٍ حادة وهو لم يتخطّ الرابعة عشر عاماً، وكيف قرر أن يترك كل شيء وينغلق على نفسه، لكن في لحظةٍ قوةٍ وارادةٍ خرج مع والده آنذاك وبدأ يتعلم تصليح الدراجات الهوائية.

يقول العم جاسم وهو يسير داخل محلة في منطقة الحرية في بغداد حاملاً إطاراً بلاستيكياً على كتفه ومجموعة براغي بيده: “من انصابيت برَمَد العين ما استسلمت للواقع واصريت اتعلم شيء يخلصني من الظلمة الي جنت عايشها”.

ويضيف “رغم العمى هسة اني أقدم مصلح بايسكلات بمنطقة الحرية حتى اصلح بوري.. الناس تشوف الشغلة عجيبة شايب و اعمى ويشتغل مهنتين”، ثم ينهي أبو نصيف حديثه بضحكةٍ تملأ فمه ويقول: “أني غلبت الدنيا 80 سنة يريد العمى يغلبني وسفة”.

في أربعينيات القرن الماضي انتشر مرض في بغداد يدعى (الرمد الحُبيبي) نتيجة انتقال العدوى عن طريق بكتريا تهيج العين وتسبب تورماً في الجفون وتخرج إفرازات صديدية، واذا لم يعالج المُصاب بفترةٍ قصيرةٍ يتسبب المرض بالعمى.

ويُعد الرمد الحُبيبي السبب الأول والرئيس للعمى في جميع أنحاء العالم بالرغم من إمكانية الوقاية منه ومعالجته في مراحله المبكرة، ويكثر هذا المرض في المناطق الأشد فقيراً وتحديداً في افريقيا، حيثُ تَصلُ معدلات الاصابة به الى أكثر من 60 بالمئة خصوصاً لدى الاطفال التي لا تتعدى أعمارهم 5 سنوات.

لم يصب المرض العم جاسم وحده فقد أصيبت والدته أيضا في ذلك الحين إلا انها تعافت بسرعة، أما الطفل الصغير فكان فريسةً سهلة للمرض بسبب الإهمال.

يتحدث أبو نصيف بنبرة حزنٍ وألم “أني ما كف بصري المرض.. أني كف بصري الإهمال.. أهلي ما اهتموا بيه.. والدي جان ما عنده وكت يعالجني بسبب شغلة بالسكك والجيران اهتموا بأمي الله يرحمها وعالجوها وتركوني لحد ما تمكن الرمد من عندي وطفت عيوني اثنينهن”.

يُعد محل أبو نصيف أولى المحال التجارية التي شُيدت في شارع المشتل قبل سبعين عاماً والذي ورثه من والده، استطاع من خلال هذا المحال أن يكون نفسه مادياً وأن يتزوج وينجب أربعة أبناء ويقودهم ببصيرته إلى مقاعد الدراسة التي حُرِمَ منها.

يتحسس أبو نصيف الحاجيات بيده عندما يحتاجها بعدما حفظ اماكن وجودها عن غيب. أكثر من 80 علبة تضم عدداً كبير من المسامير والبراغي والاحزمة “الواشرات” بأحجام واشكالٍ مختلفةً موزعات على جميع رفوف المحل.

بل إنه يعرف مكان حتى أصغر الأشياء الدقيقة في محلة وأين تستخدم، ويرفض رفضاً قاطعاً ان يساعده أحد في تركيبها أو محاولة الوصول اليها.

ولم تقتصر بصيرته في قدرته على الوصول إلى احتياجاته ومعرفة مقاييس المسامير والبراغي التي يستخدمها بل يُجيد استخدام الأدوات كافة، وخاصةً الحادة منها، فهو يستخدم المنشار الكهربائي وكذلك المبرد دون الحاجة الى شخص يعاونه إذ يعتبر المساعدة نوعاً من أنواع الإذلال على حد وصفه.

بالنسبة للعم جاسم، فإن التجول في شوارع العاصمة بغداد وجلب ما يحتاجه هي “أجمل نزهة” يقوم بها. وفي كل يوم جمعة تبدأ رحلته من بيته إلى الباب الشرقي ومن ثم إلى سوق الصدرية للتبضع وبعدها يختم رحلته في الوقوف أمام نهر دجلة ثم يعود إلى داره قبل أن تبدأ الشمس بالمغيب.

يقول العم جاسم للمنصة ” هذه نعمة من الله وما منطيها لأي انسان.. أني مو اعتباطاً أروح واطلع وأرجع للبيت.. بصيرتي شالت الظلمة من عيني وأكدر امشي بدون مساعدة أحد.. وحتى بغداد اندلها أكثر من اهواي ناس”.

العم الثمانيني كان شاهداً على الكثير من التطورات التي حدثت في العراق وخاصة السياسية منها، جهاز المذياع المعلق على حائط محله كان مصدراً ملهما له، يقول إنه عبر صوت المذياع، عشق “لحن الجمهوريين” وعلى رأسهم  زعيمهم عبدالكريم القاسم.

المصادفات لعبت دوراً كبيراً مع العم جاسم وعبدالكريم قاسم لتجمعهم في يوم من الأيام سويةً  في حادثةٍ واحدةٍ عندما أفتتح الأخير شارع المشتل في منطقة الحرية ببغداد نهاية الخمسينيات.

بضعُ امتارٍ كانت تفصل أبو نصيف عن رئيس الجمهورية آنذاك، فتقرب أحد أفراد حماية عبدالكريم من أبو نصيف وسأله إن كان يريد شيئاً من الرئيس بعدما عرف الرئيس أنه مصاب بالعمى، لكن العم رفض ذلك وقال للحارس إنه يتمتع بصحةٍ جيدةٍ وببصيرةٍ يحسد عليها.

قبل موعد آذان المغرب، بعدما تبدأ الجلبة بالتلاشي في سكون شارع المشتل وتخفّف الأقدام من وطأتها، يلملم العم جاسم بقايا أدواته المعروضة أمامَ محلهِ ويجمع ما حصده طوال اليوم من مال قليل لقاء تصليحه الدراجات، ثم يتلمس مفاتيحه ويقفل باب محله.

يقول “اولادي كلهم بمناصب حكومية زينة وعدهم رواتب بس ما فديوم مديت ايدي الهم وكلتلهم انطوني.. اني انطي لأحفادي مصروف يومي” ثم يختم كلمته بضحكةٍ عالية، يتوكأ على عصاه الخشبية راجعاً إلى البيت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى