نصف قرن مع ماكينات الخياطة

ذي قار- مرتضى الحدود

في محل صغير في قلب سوق الناصرية يتوسط أبو علي مجموعة من مكائن الخياطة، يشغّل إحداها ويستمع إلى صوت المحرك وكأنه طبيب يفحص مريضاً.

الرجل ذو الـ 65 عاماً يعمل في مهنة إصلاح ماكينات الخياطة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، اكتسب خلالها خبرة جعلته الأبرز في هذا المجال في مدينته فضلاً عن كونه الأقدم.

خلال نصف قرن من العمل عاصر أبو علي الظروف الاقتصادية والسياسية المتغيرة التي مرت على أبناء مدينته وواكب الحروب والحوادث الأمنية لكنه حافظ طوال الوقت على ابتسامته التي يقابل بها الزبائن وعلى شغفه بمهنته.

يروي أبو علي الذي غزا الشيب رأسه كيف تعلم صيانة وتصليح المكائن من اخيه الذي يكبره في السن عندما كان في السابعة عشر من عمره بادئاً أول الأمر مع ماكينة من ماركة “سنجر” الألمانية.

“درست هذه الماكينة قطعة قطعة، وتعلمت كيف تعمل وما هي أبرز أعطالها وكيف يمكن إصلاح كل عطل”، يقول أبو علي الذي انطلق بعد ذلك في رحلة جديدة من العمل على المكائن الصينية المعروفة لدى الاهالي باسم “أم الفراشة”.

وتعد “أم الفراشة” الماكينة الأشهر في البيوتات العراقية، وهي مصممة لتكون فوق طاولة خشبية، ويمكن تشغيلها من خلال الدوس بالقدم على لوح معدني أسفل الطاولة.

ويشير أبو علي أن معظم النساء في الناصرية كن يستخدمنها، بل إنها “كانت جزءاً من جهاز العروس ومهر الزواج، إذ كانت تضاف إلى المصوغات الذهبية والألبسة دليلاً على حالة العريس الميسورة”.

تبع بعد ذلك موديلات أحدث من المكائن، يروي أبو علي، وهي يابانية الصنع من نوع “برذر” تمتلك تقنيات ودرزات أحدث وأدق مما جعلها تتسيد المصانع والمعامل حتى يومنا هذا.

خلف ماكينة خياطة قام بتفكيكها إلى أجزاء يتحدث أبو علي لـ “المنصة” مرتدياً نظارته الطبية وفي يده مفكّ براغي وكأنه جراح في غرفة العمليات، يصف لنا الفترات الذهبية التي مرت بها مهنته في تسعينيات القرن الماضي.

 في تلك الحقبة رزحت البلاد تحت حصار اقتصادي قاسٍ وقلّت فرص العمل وانعدمت تقريباً البضائع المستوردة، ما دفع العديد من ربات البيوت لشراء المكائن وتحديداً “أم الفراشة” للعمل خياطاتٍ في المنازل، “فهي سهلة الاستخدام وكلفة صيانتها قليلة” يوضح أبو علي، رغم أن سعرها آنذاك بلغ  75 ألف دينار في الوقت الذي كان فيه الراتب الشهري للموظف لا يتجاوز الـ 4 الاف دينار.

في فترة الحصار تلك كان أبو علي يعمل مع أخيه منذ الصباح الباكر وحتى المساء في صيانة المكائن، لا يجد وقتاً للاستراحة لكثرة الزبائن لديه، واغلب الأعطال آنذاك كانت ناتجة عن إهمال أو سوء استخدام بحسب وصفه، فالعمل على الماكينة بسيط والأخطاء تأتي عادة من تركيب إبرة الخياطة بشكل معاكس أو وضع الخيط بطريقة خاطئة.

أما أكبر الأعطال التي كان يواجهها، فهي الأعطال الميكانيكية في أداة تسمى “التقسيم” وهي المتحكم بحركة الماكنة، وسعرها في الوقت الحالي لا يتجاوز 16 ألف دينار.

يجد أبو علي أن الفترة التي أعقبت تغيير النظام ما بعد 2003 كانت “بداية النهاية” لمهنة الخياطة عموماً وتحديداً داخل المنازل، فالألبسة الجاهزة غزت الأسواق كما أن فرص البحث عن مهنة أفضل بدأت تتزايد، خصوصاً أن العمل بالخياطة “متعب للنظر والمفاصل ويتطلب جهداً ووقتاً وتركيزاً”.

إلى اليوم يتلقى أبو علي عروضاً يومية لشراء مكائن “أم الفراشة” تصل إلى 15 ماكينة وسطياً، ترغب ربات منازل ببيعها، ويوضح أنه أحياناً يشتري المعطلة منها بغرض إصلاحها أو الحصول على قطع غيار اصلية. 

“أحتفظ بما يقارب 30 ماكينة في منزلي لما يسمى بالتفصيخ أي تفكيكهها واستخدمامها كقطع غيار  لإصلاح ماكينات أخرى”، يقول.

في الآونة الأخيرة ورغم شغفه بعمله صار أبو علي يتواجد في المحل وقتاً محدوداً لا يتجاوز الثلاث ساعات صباحاً ومثلها ليلاً، وذلك لضعف رواج أعمال الصيانة، رغم أنه الوحيد في الناصرية الذي يعمل بهذه المهنة.

“المدخول الذي نحصل عليه لقاء هذا العمل زهيد جداً بالكاد يسد الرمق”، يقول بأسف.

محله الذي لا تتجاوز مساحته السبعة أمتار مربعة لم تطرأ عليه أي تغييرات أو أعمال صيانة خلال نصف قرن من الزمن. فهو لم يستبدل حتى الآن اللافتة الخارجية التي المكتوبة بخط اليد “محل ابو علي لتصليح ماكينة الخياطة”.

في هذه اللوحة القديمة يجد أبو علي ذكريات جميلة عاشها مع أصدقاء ورفاق درب ويتذكر آلاف الساعات من عمره قضاها وسط حركة ابر الخياطة وأصوات الماكينات وفي “مجادلة النساء اللواتي اعتدن مجادلته لتقليل سعر التصليح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى