عرضها ثلاثون سنتيمتراً.. “دربونة الكسرة” الملاذ الأضيق في العالم     

بغداد – مهدي غريب 

الداخل الى هذه “الدربونة” قد يظن أنها قد بنيت لغرض تصوير فيلم سينمائيٍ تدور أحداثه في زقاق لا يستوعب مرور فرد ضخم الجثة، لكن هذا الانطباع سرعان ما يزول مع سماع صوت “جاسم” أحد أقدم ساكني الزقاق وهو ينادي من عمق المكان: “فوت صفح حتى لا تعصى”.    

“دربونة الكسرة” أو كما تسمى “الدربونة الضيكة” زقاقٌ في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة بغداد يصنف كأضيق زقاقٍ في العالم داخلاً بهذا الوصف موسوعة غينيس للأرقام القياسية العالمية.

ولا يتعدى عرض الزقاق 30 سنتمتراً تعيش به عشرة عوائل عددهم جميعاً حوالي 60 شخصاً لا تصل إليهم أشعة الشمس من جانب الزقاق بسبب الجدران العالية المغلقة التي تقف حاجبة النور. 

كما أن الأشخاص البُدناء لا يستطيعون عبوره إلا ان بطريقةٍ جانبية، أما الحاجيات متوسطة الحجم التي يجلبها سكان الحي إلى بيوتهم فلا تدخل سوى عن طريق السطوح.                 

جاسم حسن البالغ 32 عاماً تُعدُ عائلته من أقدم ساكني “دربونة الكسرة” منذ خمسينيات القرن الماضي، يتحدث لـ “المنصة” بينما يدخل إلى الزقاق قائلاً “أحنا صارنا عايشين بهذا المكان تقريباً سبعين سنة وطلعنا منه قبل سنتين بعد ما ضاك حتى الهوا بالمكان”. 

ويضيف جاسم “الشيء الوحيد الي خلانا نعوف هاي الدربوبة هي مساحتها، المكان خنكة والريحة ما تطلع من المكان، حتى اذا نريد نشتري شيء جديد للبيت لازم نرسم خطة دقيقة حتى انطبب الاغراض والا من سطوح الجوارين”.

يعود تأسيس هذا الزقاق في عشرينيات القرن الماضي ولم تكن بيوته آنذاك مغلقةً كما هو الحال الآن بل كانت مطلة على الشارع العام، لكن بعد ان بُنيت الجهة المُقابلة للزقاق في السبعيناتِ أغُلِقَ بالكامل.  

وبني الزقاق على أرض زراعية تعود لمالكٍ واحد هو المتصرف بها أما ساكنيه فهم مستأجرون منذ نحو ثمانين عاماً يدفعون مبالغ شهرية لا تتعدى الـ 50 ألف دينار للبيت الواحد. 

وبالرغم من ضيق زقاق الكسرة إلا أن أغلب ازقة بغداد القديمة المعروفة بـ”الدرابين” مصممة بهذا الشكل لكن بعرض أكبر. ويرجع تصميم وبناء الأزقة في ذلك الوقت على نحو متقارب ومتعرج إلى افتقاد الأهالي للخبرات الفنية والهندسية اللازمة. 

لكن هناك أسباب واحتياجات جعلت بغداد القديمة بهذا الشكل منها أغراض أمنية ودفاعية، حتى يصعب احتلال مناطقها خصوصاً عند دخول قوات خيالة أو عربات الخيول أو العجلات.    

حاتم ياسين من أقدم ساكني زقاق الكسرة سكنت عائلتهُ بعدما حصل فيضان في نهر دجلة في بغداد في خمسينيات القرن الماضي وما زال يسكن هو وعائلته هنا.

يتحدث بينما يحاول ادخال مبردة كهربائية الى بيته “ابسط الاشياء ما نكدر اندخلها لبيوتنا، بس ما جان هذا الزقاق بهاي الحالة.. من العالم كامت تبني الجهة المقابلة المكان انسد واختنكت الدربونة”.     

وبينما يساعده  صديقه جاسم في ادخال المبردة الكهربائية عن طريق السطوح يضيف حاتم “المشكلة أحنا انحب هذا الزقاق صارنا تقريبا سبعين سنة ساكنين اهنا, أني من فتحت عيوني شفت هذا المكان, الطفولة والشباب والزواج صارنا كلها بهاي الدربونة صعب كلش نطلع “. 

ومر زقاق الكسرة بتغيراتٍ بدلت من طابعه الديمغرافي أبرزها تغيير جذري حصل في شكل الزقاق كان في سبعينات القرن الماضي ثم تبعه هجرات من وإلى الزقاق في التسعينيات ومن ثم موجة ثالثة بدّلت أغلب العوائل القدامى في عام 2003 فلم يتبقّ منهم  سوى ما يعد على أصابع اليد الواحدة.     

في سبعينياتِ القرن الماضي بُنيت الجهة المقابلة للزقاق وهي ارض تحمل رخصة طابو سكني بعكس “الدربونة. ومنذ ذلك الحين ضاق المكان وبدأت العوائل القديمة بالهجرة منه. 

كما أن الزقاق الذي امتد سابقاً على طول 150 متر صار أقصر بعد بناء التجمع السكني مقابله وبعد أن قُطِعَ ببيتٍ تم تشييده على أساس الخريطة الجديدة للمحلة. 

اسباب اخرى تضاف الى هجرة ساكني “الدربونة” الأصليين منها صغر مساحة البيوت إذ لا تتعدى مساحة البيت الواحد 80 متراً مربعاً. ومع ازدياد عدد أفراد الأسر الساكنة اضطر معظمهم لايجادٍ مكان أكبر، على الأغلب في نفس المحلة.

وبخلاف من كان ساكناً لعقودٍ طويلة فإن العوائل التي سكنت بعدهم، أي قبل نحو عقدين من الزمن، كانت ترى ان الزقاق يوفر سكناً زهيد الثمن في قلب العاصمة.

سامر ياسر شخص ضخم الجثة قصير القامة يعمل قصاباً مقابل “الدربونة الضيكة ” يتحدث لـ “المنصة” بينما يسير بطريقةٍ جانبيةٍ كي يدخل “أحنا سكنى بهذا الزقاق بعد عام 2003 وجانت أغلب العوائل طالعة منها لأسباب اجتماعية واقتصادية وامنية بس أني كلش مرتاح بهذا المكان رغم صغره لان وين الكه هيج بيت رخيص بنص بغداد ايجاره ب 50 الف يا عمي ابلاش”.     

أغلب ساكني الزقاق القدامى ومن ضمنهم عائلة جاسم التي تركت زقاق الكسرة بسبب زيادة عدد أفراد العائلة وضيق المكان، ترى أن “الدربونة” لم تعد مكاناً ملائماً للعيش، فقد تغيرت كلياً و ناسها الأصليين هاجروا لظروفٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ. كما أن شهرة الردبونة كأضيق زقاق في العالم لم تنقذها من الإهمال، فسقوفها متهالكة وجدران مائلة بينما شظايا الطابوق المنثورة على الأرض تعرقل سير المارّة.

في منتصف بيته الصغير المتهالك يقف جاسم ينتشل صورة من كوم الانقاض أتلفتها مياه الامطار والرطوبة، يرفعها ثم ينفضها من الأوساخ ليهتف بصوتٍ عال: “ايباه وين جانت هاي الصورة أني وأبوية بيها برأس الزقاق”.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى