آخر الصفارين في مدينة الناصرية يتذكر سوق الصفافير

الناصرية- مرتضى الحدود

فجأة اختفى صوت المطارق التي تضرب على معدن النحاس مع كل صباح، ولم يبق من سوق الصفافير في مدينة الناصرية سوى أشخاص قلائل قد يدلون عليه.

كان هذا السوق قبل إغلاقه يقع في منطقة السيّف شرق ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية في شارع عمره أكثر من سبعون عاماً. يمتد على طول 700 متر.

اعتاد أهالي المدينة قبل سنوات على سماع الضوضاء وأصوات الطرق تتعالى من المحال هناك منذ ساعات الصباح الأولى كل يوم لتسكت بعد الظهر، كما اعتادوا على التمتع بمنظر القطع النحاسية المنقوشة والمعروضة على واجهات المحال في صباح اليوم التالي.

أما اليوم، فلم يبق من السوق سوى شواهد بسيطة وشخص واحد فقط يدل عليه، شخص ترك مهنة النقش على النحاس التي يعرف صاحبها بالـ “الصفّار” لأنها بحسب قوله لم تعد مجدية بعد دخول البضائع المستوردة من  الصين إلى الأسواق.

يشعر جعفر عوفي الصفار الذي تحول اليوم إلى مهنة الحدادة بالحزن على مصير المهنة ومصير السوق إذ لم يحدث وأن تحركت أي جهة حكومية أو غير حكومية للحفاظ على هذا المكان كإرث شعبي في مدينة امتد عمرها لـ 141 عاماً.

أصحاب هذه المهنة في اغلبهم وافتهم المنية والبعض ليس لديه القدرة على الحركة سوى جعفر عوفي الصفار الذي اشتق لقبه من هذه المهنة وهو يعمل الآن بالحدادة في ذات السوق وذات المحل الذي تعلم فيها صناعة “الصفر” النحاس.

جاءت تسمية الصفافير من “الصفرة” وهو لون النحاس المستخدم في الصناعة اليدوية وقد اندثرت هذه المهنة بشكل فعلي بمدينة الناصرية في عام 2010 ولم يبقى فيها صفارا واحداً واصبح السوق  في الوقت الحالي مكانا لبيع المواد الانشائية او ادوات الزراعة والحدادة.

يتحدث جعفر عوفي الصفار إلى “المنصة” وهو جالس امام محله واضعا أمامه اثنتين من دلال القهوة تذكره بهذه المهنة وبأصحابها الذين عزفوا عن مزاولتها لما تتطلبه من جهد كبير مقابل مدخولها القليل.

يقول: “مهنتي كصفار تتصلب جهداً عضلياً ودقة وتركيزاً وتفنناً في العمل من ناحية النقوش وطريقة لحامها وفي السنوات التي تلت 2003 زاد استيراد القطع النحاسية الصينية الجاهزة وبالتالي اصبح المستورد ارخص بكثير من الصناعة اليدوية”.

ويتابع واصفاً مهنته بأنها تراثية مطالباً الجهات المسؤولة في المحافظة بإنقاذها بأية طريقة ممكنة، “ففي كل مدينة من مدن العراق تجد سوق الصفافير إلا هنا في الناصرية”.

خلال حديثه يتذكر جعفر العوفي زملاءه من أبرز الصفارين في سوق الناصرية الذي توفوا، وهم جبر الصفار وكدر الصفار ومحمد علي الصفا وذياب الصويلي واولاد عبد راضي اذ كانوا ماهرين بعملهم في مجال الزخرفة ودقة النقوش التي يصنعونها.

ويذكر أن المقبلين على شراء تلك القطع كانوا من سكنة الأرياف في الأغلب وبعض الأهالي في مركز المدينة، وقد درج اقتنائها في ثمانينيات القرن الماضي في المنازل كـ “تحفية”.

ولا يزال جعفر الصفار محتفظاً بقطعة معدنية تسمى “السندان” يستند عليها معدن الصفر لأجل الطرق وهي تكبره سناً بقليل، إذ يقدر عمرها بأكثر من 60 عاماً.

رغم هجره للمهنة إلا ان الصفار يحاول بين فينة وأخرى أن يصنع قطعاً صغيرة من الصفر ليس للبيع إنما من أجل استعادة سنوات خلت يراها جميلة.

وفي بعض الأحيان يطلب منه معارفه النقش على “دلة” قهوة أو صيانتها كنوع من الخدمة، فهو الوحيد القادر على هذه المهمة في المدينة.

وأكثر ما يخشاه الصفار أن تلتحق مهن أخرى بمصير مهنته، فيقول “لعل أسواق وحرفاً تراثية أخرى سوف تندثر قريباً كما حصل مع سوق الصفارين وتبقى مجرد ذكرى يتسامر بها أصحابها بين فترة وأخرى إن لم تتدخل الدولة للحفاظ عليها”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى