الجريمة المستمرة.. عوائل آلاف من مفقودي داعش ومختطفي المليشيات في جحيم الانتظار

نوزت شمدين- نينوى

تقضي سعاد أحمد (63 سنة) عدة ساعات من يومها في غرفة نوم أبنها المفقود (أمجد) تتحدث إليه عبر صوره، وتتشمم ثيابه، ثم تفترش سجادتها على الأرض لتصلي وترفع صوتها الباكي بالدعاء ليعود إليها وإلى زوجته وابنه الوحيد. لا تغادر طقوسها تلك منذ نحو تسع سنوات.

أمجد كان منتسباً في الشرطة المحلية قبل سيطرة داعش على الموصل في 10 حزيران/يونيو 2014، غادرها مع القوات الأمنية المنسحبة نحو أربيل، لكنه عاد اليها بعد اسابيع، مدفوعاً بشوقه الى طفله الرضيع وعائلته، واثر تلقي اتصالات من زملاء له تواجدوا في الموصل وأكدوا أن التنظيم أصدر عفواً عن أفراد الشرطة والجيش، وأن بوسعه العودة والعيش مع عائلته بسلام، بمجرد توقيعه لتعهد عرف بـ(التبرئة).

وقع أمجد في مقر للتنظيم، التعهد المطلوب بعدم التحاقه مجدداً بالشرطة، دون أن يعلم هو و1599 آخرين من أقرانه في الشرطة والجيش، أنهم كانوا ضحية خدعة كبيرة قام بها التنظيم الذي ألقى عناصره القبض عليهم في أواخر 2014 ومازالت مصائرهم مجهولة لغاية الآن.

رفضت الأم القيام بأي من إجراءات الحداد، بعد حصول زوجها في تشرين الثاني/أكتوبر 2021 على قرار قضائي بموت أمجد حكماً، لغيابه أكثر من أربع سنوات، من أجل تأمين راتب لزوجته وإبنه، وأبقت أبواب الأمل مشرعة أمام معجزة عودته، لتقع في شباك نصابين تقاضوا من عائلته عشرات آلاف الدولارات لقاء معلومات غير صحيحة عن مكان وجوده.

تقول بصوت خافت:”ذات مرة محامي، وبعدها واحد من عناصر الحشد الشعبي، ثم شخص قال بأنه ضابط، زرعوا في أنفسنا الأمل، آخرهم أخبرنا بأن أمجد معتقل في الجنوب، وإذا دفعنا سيأخذوننا إليه، وفي كل مرة ندفع ولا نرى الشخص مرة أخرى”.

مع انقشاع دخان حرب تحرير محافظة نينوى من تنظيم داعش في تموز/يونيو2017، بدأت أصوات عائلات آلاف “المفقودين” ترتفع مطالبة السلطات العراقية وقوات التحالف الدولي بالإفصاح عن مصائر أبنائهم الذين اعتقلوا في فترة حكم التنظيم.

فيما برزت أصوات أخرى تطالب بالكشف عن مصائر مئات “المختفين قسريا” الذين اعتقلتهم قوات الجيش والمليشيات بتهمة انتمائهم لداعش، لتدخل عائلاتهم في دوامة البحث وحلقات الانتظار المميتة، وكذلك ضحية لشبكات احتيال تتاجر بمصائرهم ومعاناة أهاليهم.

تأخذ سعاد لحظة شرود، ثم تقول بغيض:”أثناء وجود الدواعش كان عندي أمل بأن الجيش العراقي سيحرر أبني، بعدها سمعنا بأن الجيش والحشد اعتقلا كثيراً من الناس واعتقدنا أن أمجد من بينهم، وعندما نراجع الجيش والمسؤولين نسمع انهم جميعا انتهوا في مقابر جماعية”.

تلوح بيديها وتضيف بغضب: “كذابون كلهم كذابون ومجرمون!”.

كانت الآمال كبيرة بأن يفضي انهيار داعش وتحرير محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل (405كم شمال بغداد) إلى تحرير المعتقلين في سجون ومعتقلات التنظيم السرية، وأن يحسم ملف المعتقلين -المختطفين- من قبل المليشيات، وغالبيتها تنتمي الى فصائل الحشد الشعبي التي شاركت بفاعلية في الحرب ضد داعش.

لكن كلا الملفين المتداخلين ظلا عالقين لأكثر من خمس سنوات، فتغافلت الحكومة التي تقودها أحزاب شيعية، عن تقصي مصائرهم أو إنشاء قاعدة بيانات تضم أسماءهم ومواقع اختفائهم واكتفت بالاعلان عن اكتشاف 97 مقبرة جماعية تضم رفات آلاف المدنيين ومنتسبي الجيش والشرطة العراقيين، غالبيتها العظمى لم يتم فتحها لغاية اليوم، ليبقى ذوو المفقودين على قيد الانتظار.

ويكشف تقرير للمرصد العراقي لحقوق الإنسان، عن وجود 11 ألف عائلة عراقية تبحث عن مفقوديها، المختفين منذ العام 2014، فيما تتناقل مصادر نيابية وحكومية ومنظمات معنية بالملف عن وجود أكثر من 6000 مفقود في نينوى وحدها منذ ذلك التاريخ. وتكاد تجمع تلك المصادر، بأن العدد أكبر بكثير، لكن عائلات مفقودين لا ترغب بالإبلاغ عنهم نتيجة مخاوف من اتهامهم بالانتماء لداعش.

انتظار حسم تلك الملفات له ثمٌن باهظٌ بالنسبة للكثير من عائلات المفقودين، ففضلاً عن الضرر المعنوي البالغ، يعانون من مشاكل تتعلق بتناقل التركة، فعدم وجود جثة أو شهود يؤكدون الوفاة، سيتطلب من ذوي المفقود، تقديم طلب اثبات وفاته بعد مرور أربعة سنوات من تقديم البلاغ بشأن غيابه وفقاً للقانون العراقي.

فقد أم اختفاء قسري؟

تعرف الأمم المتحدة الاختفاء القسري بأنه “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”.

وأعلنت بقرارها المرقم (61/177) في 20/12/2006 الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري وقعت عليها لاحقاً أكثر من سبعين دولة، من بينها العراق ونُشر قانون انضمامه إليها في الوقائع العراقية بالعدد4158 بتاري خ12كانون الثاني/يناير2010.

كارمن فيلا كوينتانا رئيسة لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري( CED) أشارت في 24تشرين الثاني/نوفمبر2022، بعد ختام زيارة قامت بها مع وفد من اللجنة إلى العراق، أنه لا يوجد في القانون العراقي ما ينص وبتشريع مستقل على الاختفاء القسري.

وقالت إن “عدم وجود تعريف صريح للاختفاء القسري في التشريع الوطني كجريمة مستقلة أمر مقلق للغاية وأن العمل على جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني هو وهم، بغض النظر عن الأساليب والأهداف الموضوعة”.

الحقوقي د. محمد أحمد أستغرب من تصريح كارمن فيلا كوينتانا، وقال بأن العراق وقع على الاتفاقية الدولية للاختفاء القسري التي تضمنت 45 مادة بموجب القانون رقم 17 لسنة 2009 وأصبح جزءاً من قوانينه النافذة”.

ونبه إلى وجود خلطٍ بين مفهومي(الفقد، والاختفاء القسري) وأن في تشريعات غير عراقية قد تعني أمراً واحداً لكن بموجب القوانين العراقية تعني أمرين مختلفين، ويضيف موضحا:”بالنسبة للاختفاء القسري، وبموجب تعريف الأمم المتحدة، فالتغييب يكون بسبب اعتقال أو حجز أو ما شابه، ويتم بأيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة، وهذا لم يحدث عملياً مع المفقودين جراء سيطرة داعش على مناطق في العراق لذا لا ينطبق عليهم هذا التوصيف إلا إذا اتضح بأن الدولة كانت متورطة في ذلك!”.

ويستدرك: “سيكون التوصيف صحيحاً، في حال كانت الموظفة الأممية تعني بذلك الذين اعتقلتهم الأجهزة الأمنية والميليشيات وباتت مصائرهم مجهولة، كالمدنيين الذين اختفوا بعد خروجهم من مناطق سيطرة داعش في 2016 و2015، أو المشاركين في تظاهرات تشرين 2019، الذين اعتقلتهم جهات مسلحة يرجح أنها ميليشيات دون ظهور أي أثر لهم لاحقاً”.

أما التوصيف الأدق بحسب رأي د. محمد، فهو (الفقد) وتعريفه بموجب المادة 36 / الفقرة 1 من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 هو: “من غاب بحيث لا يعلم إن كان حياً أم ميتاً، يحكم بكونه مفقوداً بناء على طلب كل ذي شأن”.

ويشير إلى أن صفة الفقد ينبغي إطلاقها حصراً على من اعتقلهم عناصر تنظيم داعش بين 2014-2017، لأنه مصائرهم مجهولة، والتشريعات العراقية منحت لذوي المفقود الحق بعد مرور أربع سنوات على اختفائه بتقديم طلب للقاضي المختص من أجل استصدار شهادة وفاة له.

عضو مجلس النواب أحمد الجبوري، ذكر بأن العراق لم يسن تشريعاً خاصاً بالاختفاء القسري: “لكنه انضم الى الاتفاقية الدولية التي تلزمه بتشريع قانون خاص بذلك” دون أن يؤكد وجود مساع برلمانية لتشريع قانون الاختفاء القسري.

لكن مصدرا في مجلس النواب العراقي، ذكر بأن لجنة مؤلفة من أكاديميين متخصصين في القانون، يضعون في الوقت الراهن قانوناً جديداً للعقوبات بدلاً من القانون رقم 111 لسنة 1969، وأنه سيقدم كمقترح ليتخذ سياق المصادقة والتشريع البرلماني خلال المرحلة المقبلة، لافتا الى أن احدى بنود القانون الجديد خصصت “للاختفاء القسري”.

ويلفت المصدر الى ما وصفه بتصحيح المصطلح من اختفاء الى إلى إخفاء قسري “حتماً ستكون هنالك جهة وراء الإخفاء، أما المصطلح الأول (الاختفاء القسري) ففيه مشكلة لغوية، إذ قد يعني عدم وجود جهة وراء اختفاء الشخص”.

أما فيما يخص تعامل العراق مع المفقودين، فيشير المصدر البرلماني، إلى أن مجلس النواب أصدر في 28/12/2009 القانون رقم 20 (تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والاخطاء العسكرية والعمليات) تضمن 21 مادة ونشر في الوقائع العراقية العدد 4140، وتم بموجبه تشكيل لجان لإستلام طلبات ذوي المفقودين وتحديد التعويضات التي يستحقونها.

وقد تم شمول المفقودون في المادة(2) ثانياً “الاستشهاد و الفقدان جراء العمليات المذكورة في هذا القانون” ولاحقاً أصدر وزير العدل السابق د. حيدر الزاملي تعليمات لتسهيل تنفيذ القانون نشرت في جريدة الوقائع العراقية في 5/11/2018، العدد 4516.

ووفق بنود القانون “يمنح الراتب التقاعدي والمنحة لذوي المفقود او المختطف في حال ثبوت موته حقيقة او حكما”، وتضمنت “التعامل مع المفقود او المختطف بحكم الشهيد لغرض استلام الراتب التقاعدي وفقاً للقانون”.

ولا ينحصر المفقودون بسبب الاعتقال او الاختفاء القسري في العراق، بالسنوات المرتبطة بحكم تنظيم داعش، بل تمتد الى سنوات العنف والحرب الداخلية (2004-2009) وقبلها ابان الحكم الدكتاتوري والحروب الخارجية للبلاد، وهو يجعل العراق يضم أكبر عدد مفقودين في العالم تقدرهم لجنة الصليب الأحمر الدولية بمئات الآلاف.

مؤتمر ضحايا “الاختفاء القسري”

يوم الأحد 4 أيلول/سبتمبر2022، عقد في الموصل المؤتمر الأول لضحايا الاختفاء القسري، بمشاركة ممثلي منظمات ومؤسسات محلية ودولية وشخصيات برلمانية، والذي عقد كما يبدو تماشياً مع توجه الأمم المتحدة، فعنوان المؤتمر وإشارات المؤتمرين خلال سير الجلسات في غالبها كانت عن الاختفاء القسري، في حين أن الموضوع الأساس ضمن الأجندة كان عن “المفقودين خلال حقبة داعش”.

الخبير السياسي (ب،غ) طلب الإشارة إلى أسمه بالحرفين الأولين، رأى أن المؤتمر عقد “كنوع من المجاملة أو إظهار الالتزام للأمم المتحدة”، وفقاً لتعبيره، وقال:”توقيت عقد المؤتمر يدل على ذلك، إذ عقد قبل شهر تقريبا من زيارة لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالاختفاء القسري للعراق”، وتساءل: “العراق كان قد وقع على الاتفاقية الخاصة بذلك قبل 12 سنة، فلماذا لم يعقد المؤتمر بعد سنة او حتى اثنتين من تحرير نينوى، لماذا بعد خمس سنوات كاملة؟!”.

المؤتمر خرج بتوصيات عديدة منها، الإسراع بإقرار قانون حماية الأشخاص من الاختفاء القسري واعتبار المفقودين من المنتسبين والموظفين الذين اعتقلهم تنظيم داعش شهداء لشمولهم بحقوق وامتيازات مؤسسة الشهداء.

وإضافة تخصيصات مالية كافية ضمن مشروع الموازنة الاتحادية لتهيئة الأمور الفنية واللوجستية لفتح المقابر الجماعية، الى جانب تسهيل الإجراءات بإزالة الروتين للإسراع بحسم معاملات المختطفين. كما شدد على “إلزام السلطات والجهات المختصة بضرورة الافصاح بنحو رسمي عن مصير المختطفين”

ويتضح من خلال التوصيات، وجود خلط بين مصطلحات(الاختفاء القسري والفقد والاختطاف والضرر والشهداء). ولهذا لا يعول (ب،غ)على ما جاء في المؤتمر:”كان مخيباً لذوي المفقودين الذين ينتظرون فتح المقابر الجماعية أو تقديم معلومات جديدة عن إجراءات الدولة حيال البحث عن مفقوديهم، ولكن أياً من ذلك قد لا يحدث في المدى القريب”.

طه عزيز(76سنة)مواطنٌ من مناطق غربي نينوى، اعتقلت عناصر مسلحة شقيقه ونجليه لدى محاولة هروبهم باتجاه القوات العراقية جنوب الأنبار من المناطق التي يسيطر عليها داعش في تشرين الثاني/ نوفبمر 2016، أخبره مرشح للانتخابات البرلمانية في 2021 بأن الكثير من المغيبين على قيد الحياة في معتقلات سرية لكن جهات حزبية تطلب مبالغ مالية كبيرة لأطلاق سراحهم.

يقول عن ذلك:”مستعد لأبيع منزلي واعطيه لأي شخص يخبرني عن مكانهم، بشرط أن لا يكون كذابا مثل ذلك المرشح الذي اختفى بعد فشله في الانتخابات”.

أرقام متباينة

نشوان سالم محمد معاون مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة نينوى، ينفي وجود إحصائية دقيقة لأعداد المفقودين والمختطفين قسريا والمخطوفين وقال: “كل جهة حكومية لديها قاعدة بيانات خاصة بعملها، وهذا يشتت الجهد في عملية حصر وضبط هذا الملف”.

وقد ظهر التباين في الأرقام خلال تتبعنا وتواصلنا مع جهات عديدة من بينها الصليب الأحمر ولجنة الشهداء والمسجونين البرلمانية ومؤسسة الشهداء، وناشطين يعملون بمشاريع تتعلق بملف المفقودين، بعضها قدرت العدد الكلي للمفقودين في عموم العراق جراء داعش بـ 27 ألف مفقود.

البحث والتقصي عن الملف في أروقة المؤسسات المعنية بمحافظة نينوى أظهر لنا ان أعدادهم تتراوح بين 6000 و 8200 مفقوداً، الى جانب أكثر من 850 مختطفا من قبل ميليشيات مسلحة وغالبيتهم من المكون السني، مصائرهم جميعا مجهولة.

رئيس “المنظمة المتحدة لحقوق الإنسان” سامي الفيصل، يؤكد الأرقام التي توصلنا اليها، ويقول بشأن المختطفين بأنهم من أهالي مدينة الموصل، ومعظمهم متقاعدون ومرضى، فروا من الموصل بعد طرق خلال فترة سيطرة داعش عليها بهدف الوصول إلى العاصمة بغداد لكن “ميليشيات مسلحة اعتقلت جزءا منهم في سيطرة بزيبز في صحراء الأنبار” ولا توجد أية معلومات بشأنهم لغاية الآن، على حد قوله.

ويضيف:”السلطات تلتزم الصمت ولا تجرؤ على فتح الموضوع”، داعيا إلى تدخل دولي لحسم هذا الموضوع، والتأكد من أماكن احتجازهم إن كانوا مازالوا على قيد الحياة.

ولفت الفيصل إلى تلقيه معلومات عن وجود 1330 عينة من الجثث في الطب العدلي بمدينة الموصل، لم يجر عليها فحصDNA  عليها لغاية الآن للتأكد من عائديتها وأن أغلبها لمواطنين كانوا معتقلين لدى داعش خلال فترة سيطرته على المدينة.

توجهنا بالسؤال عن هذا الأمر إلى الطب العدلي في الموصل، ونظراً لحساسية الأمر، فضل موظف هناك أن لا نشير إلى أسمه، وأخبرنا بأن الرفات لمجهولين “لم يتقدم الأهالي بطلبات بشأنها حتى نجري فحص الـ  D. N. A عليها”.

وأشار بأن الطب العدلي أراد تنظيم قاعدة بيانات خاصة بالمفقودين لكي تعدهم الدولة شهداء ويحصلوا على الحقوق المترتبة على ذلك “لكن ذوي المفقودين رفضوا الفكرة مع تمسكهم بأمل أن يكون مفقودوهم أحياء على الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على إنهاء سيطرة داعش على الموصل ونينوى” يقول الموظف وهو يقطب حاجبيه ويفرد كلتا يديه.

ولم نحصل على تأكيد من أي جهة رسمية فيما لو كانت هذه العينات تعود للمفقودين المسجلين أم لآخرين، ولا حتى الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حال لم يطالب بها أحد أو تثبت عائدياتها. غير أن مصدراً من شرطة محافظة نينوى أفاد بأن من المعتاد أن يطالب الأهالي بالرفات ويتحرون بمساعدة الجهات الطبية إن كانت لأبنائها.

وذكر:”أرجح أن تكون عينات الجثث لمقاتلي أو موالين لتنظيم داعش، لهذا لا تتم المطالبة بها من أحد، فالكثير من عناصر التنظيم هم أجانب، والمحليون تبرأ منهم ذووهم أو يخشون على أنفسهم من المساءلة فيما لو تقدموا للمطالبة بالجثث”.

ويتفق مصدرنا في الشرطة بوجود عائلات ترفض مواجهة حقيقة مقتل أبنائها، لذا تتجنب الذهاب للطب العدلي من أجل إجراء فحص التطابق الجيني، ويفضلون خيار انتظار أمل قد لا يتحقق أبداً”.

وبناءً على ذلك فهو يتوقع أن تكون أعداد المفقودين أكبر بكثير مما هو مسجل. ويتفق المرصد العراقي لحقوق الإنسان مع هذا الطرح في تقرير صدر عنه بتاريخ 10كانون الأول/ديسمبر2022 ذكر فيه “ربما هناك عدد أكبر من المفقودين والمغيبين قسراً لكن عوائلهم لم تتخذ الإجراءات القانونية للإبلاغ عنهم”.

وأشار التقرير إلى أن 11 ألف عائلة عراقية أبلغت عن مدنيين فقدوا منذ 2014. ونقل التقرير عن مدير المرصد مصطفى سعدون قوله: “ملف المختفين قسراً والمفقودين، أكبر من أي حكومة، ويحتاج إلى جرأة وقرار سياسي، وفي ظل الظروف التي يعيشها العراق في آخر ثلاث سنوات على الأقل، لا يبدو أنه سيكون من أولويات أي حكومة”.

وأضاف: “للأسف استخدم هذا الملف سياسياً، وهناك من يسعى إلى إخفائه بشكل نهائي. تغييب مصير هؤلاء الأشخاص طمس للحقيقة”.

داليا المعماري، ناشطة مدنية وترأس مؤسسة “الخط الإنساني” تشارك في حملة بدأت منذ 2018 أطلق عليها (أين مختطفي داعش) بالتعاون مع منظمات أخرى تنشط في متابعة ذات الملف مع أهالي مفقودين، قالت بأن الهدف هو معرفة مصير المفقودين من خلال تشكل لجنة حكومية لتقصي الحقائق بإشراف مجلس النواب العراقي.

وتؤكد بأن عدد المفقودين الدقيق في نينوى خلال فترة سيطرة داعش عليها بين 2014-2017 وفقاً لوثائق قالت إنها بحوزتها هو 6000 مفقود. وأن 430 شخصاً من أهالي نينوى اختطفتهم في 2017 قرب سيطرة (الوند) جنوب نينوى جهات “خارجة عن القانون” (تقصد فصائل مسلحة غير داعش) وكان المختطفون محامون ومنتسبو جيش وشرطة وسائقو شاحنات ومتقاعدون.

اضافة “مختطفي” الوند الى مختطفي بزيبز في صحراء الأنبار، والذين تؤكد روايات أقارب الضحايا اختفاءهم هناك، يظهر لنا أن أعداد المختطفين على يد الميليشيات، يبلغ نحو 850 مختطفا، وقد يكون العدد أكبر من ذلك بكثير لعدم وجود قاعدة بيانات، أو حتى جهة رسمية أو غير رسمية تملك إحصائية معينة.

آمال ذوي المفقودين

إعتقد الكاتب المختص بالشأن الاجتماعي مروان محسن، أن خروجه من مدينة الموصل بعد سيطرة تنظيم داعش عليها، سيعني تخليه عن مدينته التي أحبها أكثر من أي شيء آخر، لذا قرر البقاء بل ومواجهة التنظيم عن طريق رصد الانتهاكات التي يقوم بها عناصره، ونقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى العالم.

تتذكر ذلك عنه ابنته (23 سنة) بكثير من الاعتزاز، وتقول بأن عناصر داعش لم يكونوا يحتكون بالمواطنين في الأيام الأولى لسيطرتهم على الموصل في حزيران/يونيو 2014، لذلك فالكثيرون وبضمنهم والدها كانوا يتنقلون بحرية على الرغم من معاداتهم للتنظيم.

لكن يوم الأربعاء 22 تشرين الثاني/أكتوبر 2014، طرق باب منزلهم الكائن في الجانب الأيسر للمدينة عناصر من التنظيم طلبوا من مروان مرافقتهم لأن هنالك من يريد أن يطرح عليه بعض الأسئلة وأنهم سيعيدونه في ذات اليوم.

تقول الأبنة مستذكرة تلك اللحظات:”كنا نسمع في تلك الأيام وحتى قبلها ما بدئوا يفعلونه بالمعارضين لهم، ومنهم طبيبة نسائية أسمها غادة شفيق كانت جارة لبيت جدي في حي الطيران، قتلوها بالسكاكين أمام منزلها في شهر آب من تلك السنة، لذلك عندما عرفت أمي بأنهم أخذوا والدي سقطت على الأرض فاقدة الوعي”.

مرت الساعات والأيام والأشهر ثقيلة على العائلة، ولم يبق باب لم يطرقه أفرادها بحثاً عن رب الأسرة، وجابوا مع عائلات أخرى تفتش عن مفقوديها، مقرات أمن التنظيم، المستشفيات، ودائرة الطب العدلي حيث تحفظ الجثث، ويعودون في كل مرة خائبين.

“أصعب يوم مر بحياتي، كان يوم الخميس 6 آب 2015، فقد سمعنا ان التنظيم علق في الطب العدلي أسماء من قامت بتصفيتهم، أذكر ان أمي خرجت من البيت حافية القدمين راكضة نحو سيارة خالي”، تقول الأبنة وهي تضع يدها على فمها بتأثر، ثم تواصل:

“كانوا قد علقوا قوائم بأسماء 2070 شخصا على جدران دائرة الطب العدلي، أمي لم تنزل من السيارة، بقيت تدعو الله أن لايكون أسم أبي من بينهم، بينما كنت أنا وخالي وشقيقي الأكبر ندقق في القوائم لكننا لم نعثر على أسمه”.

ترفع سبابتها محاكية ما فعلته وقتها “عندما كنت أصل إلى أسم فيه مروان، سواءً الأول أو الثاني أو الثالث، كنتُ أغمض عيني وقلبي يدق بقوة، ثم أتمالك نفسي وأفتح عيني مجدداً لأتأكد من الاسم وأنتقل إلى الاسم الآخر، وشعرت بارتياح كبير لأنني لم أقرأ أسم والدي في تلك الأوراق المعلقة”.

أكثر من ثماني سنوات مرت، ومازالت عائلة مروان متمسكة بأمل عودته، ورفضت مثل كثيرات غيرها تقديم طلب للجهات المختصة لاعتباره شهيداً، مادام أمر الموت لم يتم تأكيده، وقطعاً فأن الرفات هي الأدلة التي تطالب بها، وفي حال عدم العثور عليها، سيظل أبناء تلك العائلات يعتبرونهم على قيد الحياة وموجودين في مكان ما.

وهذا ما يعترض عليه رئيس مجلس النواب العراقي، محد الحلبوسي، ويرى بأنه لم يعد هنالك شيء أسمه مفقودين، ودعا إلى أن يطلق عليهم أسم (المغدورين). وذكر خلال استضافته في برنامج بثته قناة الرشيد الفضائية في التاسع من كانون الأول/ديسمبر2022 بأن أكثر من خمس سنوات مضت على تحرير المناطق التي كانت خاضعة لداعش “والمفقودون مغدورون لأنهم فارقوا الحياة” ونصح بضرورة الإقرار بذلك.

 

واتهم الحبلوسي قوى سياسية سنية تعمل على الملف، دون أن يسميها، بأنها تعمل على”تضليل أهالي المغدورين من أجل مكاسب سياسية”، وقال بأن على السلطتين التشريعية والتنفيذية تعويض ذويهم، بموجب اتفاق سياسي ليتم شمولهم بقانون ضحايا الإرهاب ضمن مؤسسة الشهداء.

المتخصص بالشأن المحلي العراقي، الباحث سلمان غانم، يشير بدوره إلى أن واحدة من أسباب عدم إنهاء ملف المفقودين في العراق هو “اقحامهم من قبل أحزاب سياسية ضمن أجنداتها الدعائية في الانتخابات والترويج لنفسها”.

ويقول بأن برلمانيين ومرشحين في الانتخابات بعد مرحلة داعش “كانوا يبيعون الوهم لأهالي المفقودين، بأنهم سيعودون، بل أشاع بعضهم بأن الكثير من المفقودين إنما معتقلون لدى القوات الأمنية التي كانت قد عثرت عليهم في سجون داعش خلال حرب طرده من مناطق غربي العراق”.

ويذكر أن الانتخابات التشريعية جرت لمرتين بعد تحرير الموصل، الأول في 2018 والأخرى في 2021، وفي كلتيهما كان مرشحو نينوى يركزون في دعايتهم الانتخابية على ملف المفقودين والمختفين قسرياً والإدعاء بتبني ملفاتهم.

كيف تنتهي صفة الفقد؟

حالة فقدان الشخص تنتهي بعودته أو ما يدل على أنه حي أو بإثبات وفاته. وفي محاكم استئناف منطقة نينوى الإتحادية هنالك طريقتان لإعلان وفاة المفقودين، أولها بإثباتها من خلال جثة أو شهادة شهود أو بحكم قضائي، لكن قبل ذلك هنالك إجراءات يفترض لذوي المفقودين القيام بها من أجل إدارة متعلقاته المالية.

يقول المحامي علي سعد، بأن قانون رعاية القاصرين العراقي رقم 78 لسنة 1980 يتعامل مع المفقود على أنه قاصر، ويعرفه “بأنه غائب وقد انقطعت أخباره ولا يُعرف إن كان حياً أم ميتاً وفقاً للمادة 86” لذلك يتوجب على ذوي المفقود، والده أو والدته أو زوجته أو أبنه، الحصول على حجة حجر وقيمومة من محكمة الأحوال الشخصية، ويسبق ذلك وجوب تثبيت حالة الفقدان بإبلاغ مقدم الطلب من ذوي المفقود وشهادة شاهدين، ويتم الإعلان عن حالة الفقدان عبر الصحف المحلية في المدينة التي كان فيها المفقود قبل فقدانه”.

ويقول المحامي ب أن المادة 93 من قانون رعاية القاصرين نصت على قيام المحكمة بالحكم بوفاة المفقود إذا لم يثبت ذلك حقيقة، بعد طلب يتقدم به أحد ورثته، ويكون ذلك وفقاً لواحدة من الحالات:”إذا توافر دليل قاطع على حالة الوفاة، كأن يكون هنالك شهود قد رأوه رأي العين، أو إذا مرت أربع سنوات كاملة على فقدانه أو إذا فقد في ظروف يغلب عليها افتراض هلاكه ومرت سنتان على إعلان فقده”.

“وماذا لو ظهر بعد أن نصدر شهادة وفاته؟!” تقول أم غازي (56سنة) التي تأمل يوما بلقاء ابنها المفقود منذ ثماني سنوات، وهي تضع يدها على جبهتها. وتضيف :”هل أقول له بأننا أردنا نسيانه بسرعة، وأننا أردنا توزيع أغراض غرفته على أشقائه؟”.

تشير السيدة بتردد إلى صورة أبنها فتحي، المعلقة على جدار غرفته. كان يبلغ التاسعة عشر من عمره حين قبض عليه عناصر داعش في أيار/مايو 2015 في منطقة الزهور بالجانب الأيسر للموصل واقتادوه إلى مكان مجهول.

“أرسلته لشراء بعض الحاجيات من البقال القريب، لكنه لم يرجع”. تدخل في نوبة بكاء، ثم تتمالك نفسها وتتابع:”البعض قالوا بأن عناصر الحسبة أمسكوا به وهو يدخن سيكارة، وهنالك من أخبرنا بأنهم عثروا على صور في هاتفه، وآخرون قالوا بأنهم سمعوه وهو يسب الدولة الإسلامية”.

وكانت عناصر داعش الأمنية تجوب شوارع الموصل بحثاً عن مخالفات مشابهة، وتعتقل عشرات الاشخاص بذات التهم التي تحدثت عنها أم غازي، بناءً على وشايات مخبرين.

بعد مراجعات عديدة للمحكمة الشرعية، تم تهديد والد فتحي بالاعتقال في آخر مرة لكي يمنعوه من الاستمرار في توجيه الأسئلة، وقالوا له بأن لا علم لهم بمكان أبنه، وإنه إذا كان بريئاً فسيعود إلى البيت من المكان الذي هو فيه، حسبما تقول الأم التي عادت للبكاء مجدداً.

توفي زوج أم غازي متأثراً بفايروس كورونا في 2021، ولم تقدم طلباً لأي جهة رسمية لإعلان وفاة ابنها فتحي، وتبرر ذلك:”هو لم يكن متزوجاً، كان سيدخل الجامعة قبل مجيء داعش، ولا يملك شيئاً سوى ثيابه وأشيائه في غرفته، حتى بيتنا مستأجر، فماذا أفعل بشهادة وفاته، إذا كان حياً سيعيده الله لي، وإذا…..” يختنق صوتها بالبكاء ثم تواصل بصعوبة “يرحمه الله”.

مقابر جماعية

التحرك العراقي بدعم دولي لتحرير الموصل من داعش لم يتم إلا في تشرين الأول/أكتوبر2016 واستغرقت عملية التحرير زهاء تسعة أشهر، إذ انتهت في تموز/يوليو2017. ولم يتم فتح الغالبية العظمى من المقابر الجماعية المقدرة أعدادها بين 96 إلى 98 مقبرة، يرجح أنها قد تضم رفات غالبية المفقودين، وذلك لافتقار العراق للإمكانيات الفنية اللازمة لفتحها بحسب مسؤولين.

مصدر في شؤون المقابر الجماعية أفاد بأن الحكومة العراقية صادقت في 13آذار/مارس2023على الموازنة العامة التي تتضمن بين 20 إلى 25 مليار دينار لفتح المقابر الجماعية، ونفى افتقار العراق للقدرات الفنية لفتحها، مشيراً إلى تدريب كوادر متخصصة في البوسنة على ذلك، وأن المانع كان مادياً بالأساس وقد تمت معالجته في الموازنة الجديد.

يؤكد الناشط المدني محمود هاشم، أن حل مشكلة المفقودين ترتبط “بفتح المقابر الجماعية” ويعتقد بأن تنظيم داعش كان يتعمد نقل اعداد من المواطنين الذين يعتقلهم عناصره إلى مناطق معينة وقتلهم بطريقة استعراضية ومن ثم دفنهم هناك: “دون إعلام ذويهم، لكي لا تنمو معارضة داخلية ضدهم وإبقائهم على امل عودة أبنائهم”  حسبما قال.

وذكر بأن ما تعرف بـ(الخسفة) أو كما يعبر عنها أهل جنوب الموصل بـ(الخفسة) هي أكبر مقبرة جماعية، تضم “بين 400 إلى 7000 جثة لمدنيين ومنتسبي الجيش والشرطة”.

والخسفة عبارة عن فوهة طبيعية تبعد 20 كم جنوب الموصل في منطقة نائية قرب قرية تسمى العذبة، يصفها عضو مجلس النواب أحمد الجبوري، بأنها شق أرضي بعمق عشرات الأمتار كان تنظيم داعش يلقي ضحاياه بداخلها، وقام بردم جزء منها قبل أيام من انهاء سيطرته على الموصل.

ووفقاُ لما تقوله عضو مجلس النواب اخلاص الدليمي “هناك جهة غير داعش أكملت الردم بهدف إخفاء مسرح الجريمة” دون أن تحدد تلك الجهة ومصلحتها في ذلك.

ولم ينحصر استخدام الخسفة بتنظيم داعش لإخفاء أي أثر لضحاياه، بل شمل الأمر القوات الأمريكية التي احتلت العراق بين 2003-2011، بحسب معلومات جهات أمنية تواصلنا معها، ذكرت أن تلك القوات ألقت جثثاً في الخسفة لمقاتلين تابعين لفصائل جهادية مسلحة خاضت حرب شوارع ضدها في ذلك الوقت. وتلك الفصائل فعلت ذات الشيء والقت بجنود أمريكيين قتلى فيها، كما ان القوات العراقية قامت بالأمر عينه وألقت جثث مقاتلين من تلك الفصائل في الخسفة.

وأكدت تلك المصادر التي طلبت وبإلحاح عدم ذكر أسمائها، قيام تنظيم داعش بعد 2011 بإلقاء جثث منتسبي الجيش والشرطة العراقيين فيها الذين كانت تقوم بخطفهم خلال عملياتها، وبعد سيطرته على نينوى في حزيران/يونيو 2014 أخذ يلقي بعد كل عملية تصفية جثث معارضيه فيها.

يؤكد جزءاً من هذه المزاعم، عضو مجلس النواب أحمد الجبوري الذي قال في تصريحات صحفية في 30آب/أغسطس 2019 ان من المفقودين “من دفنت جثثهم في مقبرة الخسفة، ومعظمهم من منتسبي الجيش والشرطة ويبلغ عددهم 1600 منتسب، ممن لم يتمكنوا من الهرب بعد سيطرة داعش على الموصل”، مبيناً أن “الحكومة اعتبرتهم تاركين للخدمة وهاربين وليسوا شهداء”.

وجود جثث مقاتلي الفصائل المسلحة كالقاعدة وداعش في الخسفة وان كانت بأعداد قليلة، مختلطة بجثث المدنيين ومنتسبي الجيش والشرطة العراقيين، ربما يفسر سبب عدم قيام جهات لم يتم تحديد هويتها بردم الخسفة بالكامل في 2021، وأيضاً عدم وجود أي تحرك أو حتى توجه لفتحها من قبل السلطات العراقية على الرغم من مرور سنوات عديدة على مطالبات أهالي المفقودين بذلك.

عضوة مجلس النواب رحيمة حسن الجبوري، تقول بأن ما يعيق فتح الخسفة، هو امتلاك نينوى لجهاز واحد فقط لفحص DNA، مشيرة الى ان النواب الممثلين عن نينوى “تبنوا شراء أكثر من خمسة أجهزة لحل المشكلة تمهيداً لفتح المقبرة”.

يرد على ذلك مصدر في صحة نينوى، بالقول أن الأمر لا يتعلق بالفحص، بل بوجود عدد كبير من الجثث متراكمة فوق بعضها في حفرة يصل عمقها لأكثر من 100 متر، تم ردمها على مرحلتين، الأولى من قبل داعش والثانية من قبل جهة مجهولة قبل سنتين.

ويوضح: “سيحتاج الأمر إلى إمكانيات دولية غير متاحة في العراق، وقد يستغرق الأمر عدة سنوات”، ثم يستدرك مشككاً بما يصرح به سياسيون عن المقابر الجماعية: “هذه مجرد تصريحات لا أكثر، لو كانوا صادقين، لعملوا على فتح المقابر الأخرى سهلة الفتح، فهنالك العشرات منها وهي أصغر بكثير من الخسفة ولكن لحد الآن لم يفتحوا سوى سبعة منها فقط في بادوش وسنجار”.

وتقدر المنظمة المتحدة لحقوق الإنسان في نينوى أعداد المدفونين في مقبرة الخسفة بـ4700، في حين أن جهات أخرى غير رسمية تقدر أعدادهم بـسبعة آلاف.

ومن المقابر الجماعية الأخرى في نينوى (بير علو عنتر) وهي بئر معروفة تقع في قضاء تلعفر (غرب الموصل) ذو الغالبية الشيعية والتي نفذ فيها التنظيم عمليات ابادة جماعية. ويقدر نشطاء من أبناء المنطقة أعداد الجثث فيها بأكثر من 2000 جثة. وهناك مقبرة (السحاجي) جنوب غرب الموصل دون معرفة عدد تقريبي للضحايا المدفونين فيها، في حين تنتشر المقابر الأخرى بمناطق مختلفة بمحافظة نينوى ومن بينها قضاء سنجار الذي قام تنظيم داعش بعمليات إبادة جماعية فيه عقب سيطرته عليه في آب 2014، إذ قتل واختطف نحن 6000 آلاف من ساكنيه الايزيديين.

إبراهيم(58سنة) اعتقله عناصر من داعش في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 للاشتباه بأنه كان مرشحاً في الانتخابات البرلمانية التي جرت في آذار/مارس 2010، وعادة ما كان التنظيم يعاقب المرشحين للانتخابات البرلمانية أو المحلية بالإعدام باعتبارهم متعاونين مع “النظام الكافر”.

زج بأبي إبراهيم مع آخرين في غرفة بدون نافذة في مبنى بضواحي الموصل، واستدعي للمحكمة الشرعية الخاصة بالتنظيم مرات عدة، وأثبت عبر شهود أنه لم يكن مرشحاً ولا شأن له مطلقاً بالسياسة، ومع ذلك أبقي في التوقيف لخمسة أشهر.

يقول بأنه التقى بكثيرين في غرفة الحجز “كانوا يدخلون كل يوم أناساً جدد، ويخرجون آخرين، البعض كان يعودون لأسرهم والغالبية يذهبون إلى قبورهم!!”. بمرور الأيام عرف أبو أبراهيم مصائر الذين يجلبونهم لأول مرة من خلال القيود التي في أيديهم.

يوضح:”الذين تكون أيديهم مقيدة إلى الخلف بالشناطات أو القيود البلاستيكية، فهذا يعني بأنهم محكومون بالإعدام، أما الذين يأتون مكبلين بأكبال او قيود حديدية تفتح بالمفاتيح فيعني ذلك أنهم مسجونون ينظر في التهم الموجهة اليهم”.

ويقول بأنهم كانوا يختارون شخصيات معروفة او ذات مناصب أو حضور اجتماعي ويُعلنون قتلهم لإثارة الرعب، كما في حالات عرض عمليات اعدام في الشارع. أما البقية فكانوا يقتلون ويدفنون دون حتى إبلاغ أقربائهم.

يشعر أبو أبراهيم ومنذ تحرير الموصل بتأنيب الضمير لأنه يعرف ماذا حدث لعدد من المفقودين الذين يفتش عنهم ذووهم، وقال بأنه حاول في 2018 أن يبين الحقيقة لإحدى العائلات في منطقة حي الكرامة بالجانب الأيسر للمدينة:”أبنهم كان شاباً في العشرينات من عمره، بقي معي في الحبس خمسة أيام ثم أخذوه، كانت تهمته توصيل معلومات للكفار، أي الجيش العراقي. لكنني عندما وصلت إلى بيت أهله وفتح لي والده الباب وشاهدت كل ذلك الحزن في وجهه، خانتني شجاعتي، وكذبت عليه بقولي، أن هنالك من دلني على العنوان، وأن لي شقيقاً مفقوداً وأحاول معرفة شيء عنه، وسأكون شاكراً لو نصحتني بمعلومة عن جهة يمكنني اللجوء إليها”.

يستغرق أبو ابراهيم، في لحظات تفكير ثم يواصل: “أشعر بغصة في صدري، لأنني لم أخبر الوالد المسكين أنهم حكموا على أبنه بالموت، وأنهم أخذوه، كان فجر يوم أربعاء، بعد أن كبلوا يديه بالشناطات ووضعوا عصابة على عينيه”.

ابتزاز ذوي المفقودين

بعد تحرير الموصل من قبضة داعش صيف 2017 نشطت عصابات الاحتيال على ذوي المفقودين خلال فترة داعش أو “المعتقلين – المختطفين” على يد المليشيات خلال عمليات التحرير، فيقدمون لهم معلومات زائفة تفيد بوجودهم أحياء مقابل أموال غير قابلة للاسترداد.

وتتمسك كثير من العائلات بأمل أن يكون عناصر داعش أو الميليشيات يخفون أبناءهم في أماكن سرية داخل العراق وسوريا، لذا يتعاملون بحذر شديد  لأنهم يخشون أن يؤدي أي تصرف يبدر منهم للمساس بأبنائهم، فيحجمون عن تقديم شكاوى ضد المحتالين أو الإدلاء بتصريحات للإعلام.

لكن آخرين لا يؤمنون بذلك ويبدون استعدادا للحديث، بيد أنهم يفضلون تغيير الأسماء والتفاصيل حفاظاً على مشاعر بقية الأفراد. ونحن التزمنا بذلك على مسار هذا التحقيق.

يحكي أزهر(32 سنة) وهو من الضاحية اليسرى للموصل، قصة اعتقال شقيقه الأكبر “وسام” في شهر تموز/يوليو2014:”كنا قد غادرنا جميعنا إلى مدينة أربيل في الأيام الأولى من انسحاب الجيش من الموصل ودخول داعش إليها في حزيران، لكن هناك من كان يروج بأن عناصر داعش لا علاقة لهم بالمدنيين، وأنهم يفتشون فقط عن افراد الشرطة والجيش والسياسيين، فاقتنع وسام بذلك وعاد للموصل دون أن يخبر أياً منا”.

لم يكن الشاب متزوجاً، وأعتقد بأن عدم اثارته لأي جلبة وبقائه في منزل العائلة دون خروج لأي مكان لن يلفت إليه أنظار التنظيم، لكنه كان مخطئاً، إذ داهم عناصر من داعش المنزل واعتقلوه. يشير شقيقه إلى أنهم تلقوا الخبر عن طريق جار لهم فما كان منه إلا العودة للموصل في اليوم التالي بحثاً عن شقيقه.

لم يكن أزهر يعلم بأن تلك ستصبح واحدة من أكثر أخطاء حياته سوءاً، فبمجرد تواصله من (الأمنية) التابعة للتنظيم، اعتقلوه وخضع على مدى أربعة أشهر لأنواع من التعذيب للحصول منه على معلومات قالوا بأن شقيقه المعتقل يخفيها عنهم.

يتابع أزهر:”كنت أتعرض للضرب صباحاً ومساءً، لأنني لا أعرف بماذا اجيبهم عن أسئلة تتعلق بعمل شقيقي في المحافظة، وكنت أضطر للكذب والاعتراف بأشياء أخترعها لكي يكفوا عن ضربي لكنهم كانوا يستمرون في ذلك”.

لم يلتق بشقيقه قط ولم يعرف مكانه، وذات صباح ألقوه على رصيف المنزل وهو فاقد للوعي بسبب التعذيب. لكن كل ذلك كان قابلاً للاحتمال على حد قوله، مقابل ما سيجري لاحقاً، إذ يقول بأن شخصاً اتصل بوالدته في أواخر 2017، وأكد لها امتلاكه معلومات عن مكان وجود وسام.

ويواصل :”يبدو أنه كان شخصاً يعرف شقيقي معرفة شخصية، لأنه أعطى مواصفاته وطريقه حديثه كدليل على مصداقيته، وعبثا حاولنا إقناع أمي بأنه شخصٌ نصاب، كان يتصل بهاتفها عبر رقم خاص، يقول لها بضع جمل وينهي المكالمة، وفي آخر مرة طلب منها مبلغ 30 ألف دولار لكي يخبرها عن مكانه، وجمعنا المبلغ بعد أن استدنا نصفه، وسلمناه لامرأة مبرقعة طرقت الباب صباح الجمعة حسب الاتفاق الذي جرى بين النصاب وأمي، وحذرها بأن وسام سيموت إذا بلغنا القوات الأمنية”.

اتصل الشخص ليلتها، وأخبر الأم بأن ابنها في بلدة أسمها الباغوز في محافظة دير الزور بسوريا، دون أي تفاصيل أخرى، ولم يعد للاتصال ثانية. يقول أزهر، بأنها أبقت الهاتف مشحونا وقريباً منها ليل نهار لغاية شهر نيسان/أبريل 2019، إذ تمكنت العائلة من التواصل مع سكان من تلك البلدة التي كانت قد تحررت منذ أيام قلائل ونفوا بعد التواصل مع الجهات المسلحة المسيطرة هناك، أي وجود لوسام.

لم تفقد الأم أملها بعودة ابنها المفقود، وهي تشتري له ثياباً صيفية مع قدوم الفصل على أمل عودته، ثم تمنحها للفقراء في نهايته وتعاود فعل ذلك بداية فصل الشتاء، تشتري ثياباً سميكة وتمنحها للفقراء بحلول الربيع. هكذا يصف أزهر ما تقوم به والدته.

ويؤكد بأن مناقشة أمه فيما تفعله أمر معقد وغير انساني. ويرى بأن فتح المقابر الجماعية والعثور على رفات شقيقه سيريحها مما يصفه بالعذاب الذي تعيشه ليل نهار.

مصدرنا في شرطة نينوى، قال بأن بعض ذوي المفقودين – دون تحديد عددهم- سجلوا في السنوات الأخيرة شكاوى نصب واحتيال ضد أشخاص تقاضوا منهم أموالاً مقابل معلومات عن أبنائهم، وذكر بأن تهماً بهذا الخصوص وجهت لمحامين وحتى عناصر في الجيش والشرطة.

ويوضح: “من خلال قوائم المفقودين الموجودة لدى الجهات المعنية يحصلون على المعلومات ويتواصلون مع ضحاياهم، ويخبرونهم أن بوسعهم معرفة أماكن احتجازهم في سجون ببغداد أو جنوبي البلاد، فيأخذون منهم جزءاً من الأموال التي يتفقون عليها، وبعدها يماطلون أو يختفون ولا يردون على اتصالات الأهالي”.

أحد هؤلاء، محامٍ في منطقة الرشيدية شمال مدينة الموصل، تقاضى مبالغ تتراوح بين 20 ألف إلى 30 ألف دولاراً من عدة عائلات، يدعي بأنه يمتلك معلومات عن أبنائها المفقودين، وأنهم أحياء ومعتقلون في سجون سرية بالعاصمة بغداد وجنوبي البلاد.

تواصل معد التحقيق مع المحامي على أنه شقيق مفقود خلال فترة وجود داعش في الموصل، زوده بالاسم الثلاثي لشقيقه المفترض وتاريخاً غير حقيقي للقبض عليه في 2015، وطلب منه العثور عليه، فوافق المحامي على الفور مؤكداً بأن لديه علاقات مع رجال أمن برتب عليا، وأدعى أنه بتلك الطريقة توصل إلى أن الكثير من المفقودين الأحياء، وطلب مبلغ 10 ألف دولار كمقدمة غير قابلة للرد، مدعياً أن نصفها ستذهب لضباط في الشرطة سيوفرون له المعلومات.

ورفض المحامي تنظيم اتفاقية محاماة (عقد ينظمه الموكل مع المحامي لتثبيت الاتفاق المتضمن مهام المحامي والأتعاب التي يتقاضاها كمقدمة وأيضاً المبالغ الأخرى التي يفترض أن يتقاضاها بعد إنجاز مهمته) مدعياً أن لديه شركاء من الضباط ولن يكون موقفه القانوني سليماً إن أورد أسمائهم، كما أنه ليس من العدل أن يوقع على مبالغ لن يتقاضاها لوحده.

وتبرر الناشطة المدنية داليا المعماري، التي فقدت هي الأخرى والدها بسبب داعش، عدم لجوء العائلات التي وقعت ضحية للمحتالين إلى القضاء، بالآمال التي يحاولون التمسك بها إلى آخر لحظة، لافتة إلى أنها على تواصل مع أمهات عديدات وقعن ضحايا احتيال لأشخاص أوهموهن بأن أبناهن أحياء، مشيرة الى ان عدد تلك الحالات بالعشرات.

وتضيف: “نعلم جيداً بأنهم يكذبون، إذ لم يتم العثور مطلقاً على أي من المفقودين بعد 2017، لكن ماذا يمكن أن نقوله لأمٍ تعيشُ فقط من أجل معرفة شيء عن أبنها، لأنها تفضل تصديق الوهم بأنه حي، على واقع أنه مدفون في واحدة من المقابر الجماعية، وأن حصولها حتى على أجزاء من رفاته شبه مستحيل”.

  • أنجز هذا التحقيق تحت إشراف شبكة نيريج، وبدعم من “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى