متحف للكنوز الإعلامية في بغداد

بغداد- مصطفى جمال مراد
ما أن تدفع بيدك باب متحف الإعلام العراقي حتى تستقبلك مقتنيات متنوعة من الكاميرات وآلات الطباعة وأجهزة التصوير والملفات والأرشيفات والوثائق، ترسم صورة عن تاريخ الإعلام في العراق منذ بداياته الأولى حتى اليوم.
تروي مينا الحلو، الفنانة التشكيلية والمسؤولةعن إدارة المتحف أن فكرة إنشاء متحف خاص يجمع مقتنيات ووثائق تخص الإعلام العراقي بدأت سنة 2018 عندما زار العازف العراقي نصير شمه هذا المبنى الذي يقع بالقرب من ساحة الملك فيصل الاول في بغداد غير بعيد عن مقر شبكة الإعلام العراقي.
“آنذاك كان المبنى معهداً للتدريب الاعلامي، فكانت فكرة مشتركة بين الفنان نصير شمه ورئيس شبكة الاعلام العراقي السابق مجاهد ابو الهيل أن يعيدوا تأهيل البناية وينشؤون قاعه تعرض فيها الأجهزة”، تقول الحلو.
هذه المبادرة تلقت دعماً من مجموعة من المؤسسات والجمعيات العراقية الحكومية والأهلية، ليتم في نهاية المطاف تأسيس متحف يتألف من سبع قاعات، قاعة للصحافة وأخرى للأجهزة التلفزيونية، وقاعة للإذاعة وقاعة لأجهزة متنوعة فضلاً عن قاعتين في الطابق العلوي مخصصتين للعروض وجزء من استديو مطابق لاستديو برنامج “رياضة في اسبوع” الشهير الذي كان يقدمه المعلق ولاعب كرة القدم العراقي الراحل مؤيد البدري، والذي استمر حوالي ثلاثة عقود (من بداية الستينيات حتى بداية التسعينيات) وكان البرنامج الوحيد وقتها الذي يحتوي على ديكور.
تم اختيار هذا البرنامج بحسب الحلو لأنه بين مجموعة قليلة من البرامج المهمة في تاريخ العراق، وكانت الفكرة بالنسبة لمؤسسي المتحف أن يخلقوا من خلال التذكير به علاقةً خاصة مع الزائرين ، “فعندما تدخل إلى المكان وتشاهد الاستديو سوف تتأثر مثل ما كنت تتأثر ببرنامج رياضة في أسبوع”، تقول الحلو.
وبالفعل، فإن كثراً من زوار المتحف ممن بينهم فنانون ومسؤولون حكوميون وساسة، ما أن يصلوا في تجوالهم إلى آخر المحطات ويدخلوا إلى الاستديو حتى تبدو عليهم علامات التأثر، فيجهشون بالبكاء “لأن هذه المحطة كانت جزءاً من طفولتهم وذكرياتهم” توضح الحلو.
أثناء التجول في المتحف شاهدنا أيضاً في أحد أركانه “بلبل الإذاعة” وهو جهاز على شكل فقص ذهبي بداخله طائر، كان أهداه الزعيم النازي أدولف هتلر إلى الملك غازي في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان يصدر صوتاً شبيها بصوت البلبل، فقام الملك غازي بإهدائه للإذاعة، “وكان يصدر صوت البلبل قبل الافتتاح بالقران الكريم، واستمر موجوداً بالإذاعة حتى 2003”.
عندما اندلع حريق في مبنى الإذاعة والتلفزيون عام 2003 سرق البلبل باعتباره مجرد قطعه نحاسية إذ لم يعرف السارق قصته ولا قيمته التاريخية فقام ببيعه، فاشتراه المخرج العراقي “خطاب عمر” ضمن عدة مقتينات أخرى قائلاً للبائع أن الجهاز قطعة تخص أسرته وأنه ويريد إعادتها إلى منزل العائلة.
كان البلبل وقتها قطعة من السواد بسبب الحريق وكانت غصن الطائر مكسوراً وعتلة الصوت مفقودة منه، فعمل “خطاب” على إصلاحه ثم أهداه للمتحف.
لم يكن “بلبل الإذاعة” الضحية الوحيدة للحريق الذي حصل في الإذاعة ولكن كذلك “قرآن الإذاعة”، تقول الفنانة التشكيلية مينا الحلو: “قامات كبيرة من الإذاعيين كانوا يقرأون في هذه النسخة، أو يستخدمونها مرجعاً لغوياً قبل كتابة تقاريرهم”.
وأضافت: “هاتين القطعتين قمت بالاحتفاظ بهما وحراستهماالى يوم الافتتاح وجلبتهما معي ووضعتهما في فاترينا من زجاج ثقيل لأنهما ثمينتان جداً”.
القائمون على المتحف اختاروا شعاراً خاصاً لهذا المكان استلهمت الحلو تصميمه من الكتابة المسمارية، وتحديداً كلمة مسمارية “ايكي” التي تعني العين أو البصيرة في لغة بلاد الرافدين القديمة.
تقول: “عندما صممت الشعار كنت افكر بشيء جديد ولأن هنالك العديد من الشعارات الجميلة” واضافت: “فكرت بتصميم يجذب الناس وغريب على عين الإنسان فوجدت هذه الكلمة المسمارية”.
أما المصدر الرئيس للحصول على مقتنيات المتحف فكان من المخازن الخاصة بشبكة الاعلام العراقي فضلاً عن تبرعات من شخصيات إعلامية وسياسية ومواطنين بحسب مازن رحيم، وهو مصمم جرافيك وأحد موظفي المتحف.
يتابع رحيم: “هناك أيضاً أجهزة كانت موجودة في قصر المؤتمرات التابع لوزارة الثقافة وكذلك في مجلس النواب وهي تعود لعهد النظام السابق، منها جهاز قديم كان يستخدم في عمليات المونتاج في الثمانينيات”.
وكان المتحف في أربعينيات القرن الماضي مدرسة ابتدائية تسمى “مدرسة المنصور” ثم أصبح معهداً للتدريب الإذاعي تخرجت فيه نخبة من الإعلاميين، بل إن “تسعين بالمئة من الإعلاميين والمذيعين في ذلك الوقت كانوا يأتون إلى هذا المكان للحصول على الدورات والتدريبات المختلفة التي تطور من قدراتهم” يؤكد رحيم.
وتوقف معهد التدريب الاذاعي سنة 2003 واستخدم كمبنى بديل لاستوديو العراق، ثم أصبح معهد تدريبياً تابعاً لشبكة الإعلام العراقي.
يروي رحيم أن الفنانة مينا الحلو كانت في فترة التأسيس تعمل وحدها، فقد استلمت المكان قبيل جائحة كورونا بشهرين فقط، وكان معظم الموظفين لا يأتون إلى مقر العمل بسبب الوباء، لكنها تمكنت خلال سنة واحدة من جمع حوالي مائتي جهاز من مقتنيات الإعلام العراقي.
واضاف: “شكلت الفنانة مينا الحلو آنذاك لجنة من الخبراء واستعانت بمهندسين متقاعدين لجمع الأجهزة إذ لم يكن لديها معرفة كاملة بوظيفة كل منها وطرائق استخدامها”.
ويتابع: “لم تتم عملية جمع المقتينات بسهولة، فالناس لا تثق كثيراً بالجهات الحكومية وكان بعض المتبرعين خائفاً من التبرع بالمقتنيات والأجهزة ومن عدم عرضها أو حفظها بطريقة لائقة أو عدم شكره على القيام بالتبرع”.
لكن بعد الافتتاح “كان المتبرعون فرحين جداً من طريقه العرض وتم منح كل واحد منهم كتاب شكر رسمي” تفيد الحلو، مضيفة أن عدد المتبرعين زاد بعدها “حتى أنني لم أعد قادرة على اللحاق بتنظيم وترتيب كمية الأشياء التي تبرعوا بها للمتحف”.
ويحتوى هذا المتحف في قاعة الصحافة على مقتنيات هامة، من بينها صحف ومجلات قديمة تعود للعقود الخمسة الماضية بقيت جديدة، وكأنها لم يمسها الغبار .
“تبرعت لنا الأستاذة الإذاعية أمل المدرّس بسبعين عدداً من مجلة الإذاعة والتلفزيون وهذه المجلة توقف إنتاجها في بداية الثمانينات”، تشير الحلو، وتكمل قائلة: “كانت هذه المجلات مخزونة وكأنها خرجت من المطبعة حديثاً”.
ومن بين أبرز المتبرعين كان الممثل العراقي ضياء البياتي “الذي انقذني بالأرشيف المتواجد لديه” بحسب وصف الحلو، إذ “لم يكن هنالك أرشيف للأفلام والتمثيليات العراقية وكان لدى الأستاذ البياتي أرشيفاً ضخماً جمعه بنفسه منذ أول تمثيلية عراقية، يحتوي على كل المعلومات حول الأعمال الفنية والكادر والديكور والأزياء وهي اليوم موجودة على شاشة العرض داخل المتحف”.
كما قام الممثل العراقي سامي قفطان بالتبرع بجوائزه للمتحف وكذلك عائلة الممثل والمخرج العراقي المعروف يوسف العاني التي تبرعت بصندوق كامل يحتوي على أعماله مكتوبة بخط يده، وفنانون وإعلاميون آخرون تبرعوا أيضاً للمتحف بمقتنياتهم.
منذ افتتاحه إلى اليوم أنتج المتحف ثلاثة أفلام وثائقية، أحدها عن تاريخ التلفزيون العراقي وآخر عن تاريخ الصحافة وثالث عن تاريخ الإذاعة ايضاً، يمكن للزوار مشاهدتها أو الحصول على نسخ منها.
وتتطلع الحلو إلى البدء بمرحلة جديدة من انتاج أفلام وثائقية عن شخصيات عراقية إعلامية وفنية، تقول إن العازف “نصير شمة” شجعها أيضاً عليها، سوف يطلق عليها اسم “الرواد” أو “المؤسسيين”.
كما تخطط مديرة المتحف لافتتاح قاعة للسينما الوثائقية مجهزة بشاشات عرض تحمل معلومات خاصة عن الأفلام وصور وكتابة مختصره عن الحكاية والممثلين والمخرج والمؤلف وسنة الانتاج مرفقة بالبوسترات الأصلية لكل فيلم.
وتضيف:”أفكر أيضاً بتأسيس قاعة لمقتنيات الفنانين واجهزتهم حيث بدأت بجمع سكربتات مكتوبة بيد الفنانين وجوائز تقدير كانوا قد حصلوا عليها ومقتنيات خاصة بهم كراديو يعود فنان معين أو نظارة طبية استخدمها فنان آخر”.
ولا يحتوى المتحف على أرشيفات فترة ما بعد الاستقلال وحسب، فاقدم قطعة فيه تعود سنة 1910 وهي عبارة عن جهاز قديم لتسجيل الأصوات.
ويتواجد في المتحف ميكسر صوت خاص بالملحن العراقي طالب القره غولي يحمل اسمه، وكان هذا الملحن من بين الأكثر خبرة في استخدام الأجهزة الصوتية، وكان الفنانون المصريون والخليجيون يأتون إليه لتسجيل مسلسلاتهم في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
كما تبرع المصوران عبدالله حسون و حسين حسون بالاستوديو الخاص بهما بالكامل وكذلك بالكاميرات ومعدات التصوير الخاصة بهما.
يقول الطالب أحمد حسين، 20 عاماً، أحد زائري المتحف “لا أستطيع أن أصف شعوري.. لقد رأيت مقتنيات لم أرها من قبل جعلتني أعاصر طفولة ابي وأمي”.
هذا بالضبط الهدف من إنشاء المتحف بحسب القائمين عليه، أن يلامس حياة العراقيين بشكل او بأخر ويستعيد ذاكرتهم المفقودة، سواء كانوا ممثلين او مصورين أو قراء صحف ومجلات او عاملين في مجال الإعلام نفسه”.
وتختم الحلو حديثها للمنصة قائلة: “نريد إحياء كل ما هو خاص بتاريخ الاعلام العراقي في نفوس المجتمع العراقي.. بكل فئاته”.