شرايين العراق بين القطع والتجريف
بغداد- مصطفى جمال مراد
في في بلدٍ كان يطلق عليه قديماً اسم “بلاد السواد” لخصوبة أرضه وكثرة أشجاره يصعب اليوم العثور على أشجار معمرة في معظم أحياء العاصمة، بسبب القطع الجائر لها دون الاخذ بالحسبان النتائج المترتبة على ذلك.
رامز مجيد، شاب في منتصف العشرينات درس هندسة الاتصالات في بغداد وهو اليوم واحد من أبرز النشطاء البيئيين الذين يعملون على التوعية بمخاطر قطع الأشجار المعمرة.
يعدد رامز فوائد تلك الأشجار التي تمتص ثنائي اوكسيد الكاربون وتطرح الاوكسجين بكميات أكبر بكثير من غيرها من الأشجار بسبب ضخامة جذوعها وساقها وتاجها، فتقوم بعمل “مصفاة للملوثات الهوائية” ويمتد عمر بعضها أحياناً إلى مئات السنين.
ويضيف “بعضها كشجرة بولونيا مثلاً تتحمل الظروف المناخية القاسية ويمكن أن تعمل كمصدات رياح إذا وضعت كحزامٍ أخضر حول المدن”.
لكن الأشجار المعمرة في العراق وخصوصا في العاصمة عرضة لتهديد كبير بسبب التوسع العمراني كما حصل مثلاً في منطقة الكرادة التي فقدت معظم أشجارها.
يقول رامز “كانت هذه الأشجار المعمرة تعكس ظلاً على طول الطريق فيستمتع المارة بفيئها لكن تم قطعها من قبل البلدية كي يقوموا بتوسيع الشارع”، ويكمل: “الأمر نفسه حصل مع بساتين النخيل على طريق سريع في منطقة الدورة فقد تم قطعها لتصبح مجمعات سكنية”.
تتوزع مسؤولية حماية هذه الأشجار بين البلدية ووزارة البيئة ووزارة الموارد المائية لكن العكس يحصل تماماً بحسب رامز الذي يؤكد أن هذه المؤسسات “تعطي الأولوية لمشاريع الاعمار كونها مربحة على حساب البيئة والمساحات الخضراء والأشجار المعمرة”.
لكن في مقابل تقصير الدولة يشير رامز إلى أن الفرق التطوعية التي تزرع الأشجار المعمرة وغيرها من الأشجار ازداد عددها منذ 2022 بعد حدوث العواصف العراقية القوية التي تسببت بمشكلات بيئية كثيرة.
يقول رامز “يمكننا كفرق تطوعية أن نزرع الأشجار في كل مكان لكن المشكلة الكبرى تكمن في الاهتمام بها وادامتها فعندما نزرع شجرة تعيش على الأغلب سنة أو سنتين ثم تموت”.
ويتابع قائلاً: “لا يمكن للفرق التطوعية ادامه الأشجار بشكل مستمر لأنها تتطلب مبالغ كبيرة وآليات وتجهيزات وهي مسؤولية تقع على عاتق الحكومة ومؤسسات الدولة”.
من ناحية أخرى يجد المتطوعون صعوبات في اختيار قطعة الأرض المناسبة لزراعة الشجر “فهناك أراض خاصة لا يمكن الزراعة بها وأراض أخرى ملكيتها للدولة وتحتاج إلى استصدار موافقات قبل البدء بحملات التشجير”.
لذلك تركز الجهود التطوعية بحسب هذا الناشط على مخاطبة الرأي العام وحث أصحاب الحدائق المنزلية والأراضي على زراعة الشجر في تلك المساحات مهما بلغ صغرها، لكنها حملات لا تحصد نجاحاً بالضرورة، “فبعض الناس يعتقد أن الكلام عن البيئة والمناخ كلام مترف وليس من الأولويات في ظل وجود أزمات ملحة تواجه المواطن العراقي”، يوضح رامز.
في حملات التوعية يستخدم النشطاء “شجرة آدم” رمزاً لنشاطهم، وهي واحدة من أشهر وأضخم الأشجار المعمرة في العراق تقع في مصب نهر دجلة والفرات وتدور حولها العديد من القصص تتناقلها أجيال عدة.
يلفت نشطاء إلى أن أسباب سياسية وليس فقط بيئية تؤدي إلى فقدان البلاد أشجارها، مثل الهجمات التركية على شمالي العراق، “يقوم الجنود بقطع الأشجار المعمرة ومنها البلوط وذلك من خلال عمليات إنزال في تلك المناطق” يقول رامز.
الناشط البيئي حسين علي غني وهو عضو في جمعية النحالين الدنماركيين والنحالين البريطانيين شارك في تأسيس جمعيتين متخصصتين في مجال مكافحة التصحر وإنشاء الغابات والأحزمة الخضراء هما جمعية “المليون شجرة” و”جمعية النهضة الزراعية”.
بدأت الجمعيتان أولى حملات التشجير سنة 2013 تحت عنوان حملة “زراعة المليون شجرة” ومنذ ذلك الوقت لا تتوقفان عن زراعة الأشجار في عموم البلاد.
يقول إن “لدينا في العراق العديد من أنواع الأشجار المعمرة مثل التين البنكالي والسيسم” ويضيف “أن هذه الأشجار متواجدة في الكرادة والزعفرانية وأعمارها تتجاوز المئة عام وتنتشر السيسم في الانبار خصوصاً”.
أما أبرز الأشجار المعمرة في العراق المتواجدة منذ اكثر من ألفي عام فهي الزيتون والكستناء والدلب المشرقي.
ولا تتوافر إحصائية عن عدد الأشجار المعمرة ولا سجلات لدى الوزارات المعنية عن أماكن توزعها وأعمارها، لذلك يسهل قطعها دون التعرض لأي مسائلة على حد قول الناشط البيئي حسين علي غني، ويكمل قائلاً: “يبررون قطع هذه الأشجار بقولهم إن أوراقها عندما تتساقط تسبب باتساخ الارض”.
قبل عقد من الزمن كانت أشجار السيسيم والسند التي يصل عمرها إلى أكثر من ألف عام تصطف في شارع السعدون وكذلك في شارع فلسطين وشارع النضال الذي خسر آخر أشجاره المعمرة قبل بضع سنوات وكانت بحالة مزرية فزرع بدلاً منها نبات الكابرس الذي لا يمكن مقارنته بالسيسم المعمّر من حيث أهميته وأثره الإيجابي على البيئة.
يتابع غني: “كان هناك في الحارثية شجرة معمرة عملاقة أصحابها هاجروا إلى خارج العراق” ويكمل قائلا “قام أحد الساسة المتنفذين بالاستحواذ على المكان وأمر بقطع الشجرة لأنها توسّخ المكان” مضيفاً أن العديد من البساتين تم تجريفها من أشجار النخيل مثل بساتين “عرب جبور” وبساتين في منطقة الدورة بهدف تحويلها إلى محاضر عقارية.
ويلفت الناشط “حسين علي غني” إلى أن القوانين العراقية تعاقب على قطع الأشجار المعمرة من دون موافقة وزارة البيئة، “لكن ليس هنالك أي جهة تراقب هذا الأمر وتنفذه فقد شكلت وزارة البيئة شرطة بيئية لكن تأثيرها ضعيف”.
وكانت منطقه اليرموك والقادسية والحارثية مليئة بالأشجار المعمرة من نوع البلوط والسيسم ولسان العصفور وهي أشجار تسهم في الحد من التصحر فجذورها عامودية تنزل الى أعماق الارض وتعمل كمضخة تسحب المياه كما تستخدم أيضا كمصدات للأتربة والرياح.
ويطالب غني بتشجير كل بقعة ممكنة في العراق بالأشجار المعمرة “فحتى الأرصفة اصبحت اسمنتية وخاليه من الاشجار” على حد وصفه.
المهندس البيئي سيف خالد يؤكد على مطالب النشطاء البيئيين قائلاً إن العراق فقد الآلاف من أشجاره المعمرة والملايين من أشجار النخيل.
فبعد أن كان يضم حتى عقود قريبة نحو 30 مليون نخلة “تناقصت الأعداد لتصل إلى ستة ملايين فقط لأسباب تبدأ بالتوسع العمراني ولا تنتهي بالحروب التي خلفت أكبر مجزرة للنخيل في تاريخ العراق”.