حياة “العم حسين” المنسوجة بالإبرة والخيط
فاطمة كريم _بغداد
أمضى العم حسين شريف أكثر من نصف عمره في محله الصغير في منطقة الكاظمية في بغداد يصنع العباءات الرجالية معتمداً على الإبرة والخيط، دون استخدام أي ماكينة خياطة.
تعلم حسين شريف النجفي الملقب بأ بو حيدر، 78 عاماً، مهنة خياطة العباءات من والده الذي كان أحد أشهر الخياطين في مدينة النجف، وكان الزبائن من دول الخليج العربي يقصدون محله لتميزه بخياطة هذا الزي العربي الاصيل.
بعد وفاه والده انتقل النحفي في السبعينيات من القرن الماضي إلى منطقة الكاظمية، فاشترى محلاً في سوق الستربادي، ليصبح اليوم بعد أن غزت البضائع المستوردة معظم محلات السوق، الخياط الأخير في الكاظمية المتخصص بهذا النوع من الملابس دون استخدام اي آلاتٍ.
يقول النجفي إن “هذا النوع من “العبي” يحتاج إلى مهارة ودقة فنية في العمل في كل مرحلة من مراحل الخياطة” مؤكداً أن جميع تلك المراحل يدوية لا يستخدم فيها سوى الإبرة والخيط والمقص.
و”العباءة” الرجالية من الأزياء العربية القديمة التي لم يحدد معظم الباحثين تاريخاً مؤكّداً لبداياتها الأولى، فمنهم من أرجعها إلى عصور ما قبل الإسلام وعرب الجاهلية ومنهم من يعتقد أنها موجودة قبل تلك الفترة.
وعرفت العباءة في عصر الإسلام كزيّ رسميّ تميز به أبناء البادية وسكان شبه الجزيرة العربية، وذكرت بعض المصادر التاريخية أن الرسول محمد (ص) كان يرتدي “العباءة” المعروفة في ذلك الوقت باسم “البردة” وهي قماش من الصوف الخشن ذو لون مائل إلى السمرة يكون مخططاً، وقد شاع ارتداء “العباءة” الرجالية بين معظم أبناء العالم العربي.
صعوبة خياطة العباءة تمكن بحسب النجفي في دقة تفاصيلها، فهنالك مراحل تمر بها وكل مرحلة تختلف عن الاخرى ولها محترفيها إلى أن تصل إلى الزبون.
ويشرح العم حسين تلك المراحل من المرحلة الأولى التي تتمثل بانتقاء صوف الغنم المناسب وجزّه وتنظيفه لتخليصه من الشوائب والأوساخ العالقة به، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة الغزل حيث يبرم الصوف بواسطة مغازل خاصة ليصبح بعد ذلك خيوط رفيعة جاهزة للحياكة، ولهذه المرحلة أناسها المحترفون، وتقاس جودة الغزل بمدى سُمك الخيط فكلما كان الخيط رفيعاً كل ما كان ذلك من المحاسن التي تساعد على رفع سعر العباءة.
بعد الغزل تدخل الخيوط في مرحلة جديدة هي الحياكة أو “الجومة”، إذ يحاك الغزل بواسطة بعض الآلات ليصبح عبارة عن قطعة واحدة تعرف باسم “الدرج”، وتصل فترة الحياكة وإتمام “العباءة” إلى 15 يوماً واكثر.
“كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج الى فريق عمل كامل متخصص بها” يوضح العم حسين، لكن بعد دخول المستورد الى السوق وبسبب رخص سعره اتجه اكثر الخياطين إلى شرائه ولم يعد الغزل يتم بهذه الطريقة إلا ما ندر، ويكمل: “عدد الاشخاص الذين يحيكون قماش العباءة اليوم لا يتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة، وأغلبهم يتواجدون في المحافظات الجنوبية بسبب غزو المستورد”.
اليوم تأتي الأقمشة إلى محال السوق بنوعيات مختلفة أغلبها مستورد من دول الخليج العربي ومصر والصين، أما زبائن النجفي فمعظمهم يجلب القماش الذي يختاروه ويقوم بخياطته فقط، مضيفاً أن معظم زبائنه يشترون القماش التقليدي من المحافظات الجنوبية بسبب جودته ومتانته.
محسن محمد الذي قطع مسافة 360 كم من محافظة ذي قار الى بغداد قاصداً محل العم حسين لكي يقوم بخياطة عباءة له يقول إن العباءات التي يصنعها النجفي لا تشبه “عباءات هذا الجيل” فهي تحافظ على جودتها سنوات عدة، على عكس العباءات المستوردة.
لكن ليس لكل العباءات التقليدية السعر نفسه، إذ يختلف بحسب نوعية الصوف وطريقة الحياكة، ففي محل العم حسين هناك عباءات يصل اسعارها الى المليونين ونصف المليون دينار عراقي أو ثلاثة ملايين، “ويلبسها ابناء بغداد وبعض المحافظات خاصة الشيوخ الكبار”.
بينما يتحدث محسن إلى “المنصة” كان العم حسين ممسكاً الابرة بيده موجهاً تركيزه على قطعة القماش يخيط تفاصيلها بدقة، وهو حال استمر عليه لعقود جلب له أوجاعاً في الظهر والمفاصل وكان سبباً في ضعف بصره.
يخيط العم عباءة محسن من خيوط عدة، أحدها اسمه كلبدون” أو”الجاسبي”، ويطرز به العباءة وهناك “التحرير” بالوان مختلفة مثل”الذهبي” وهو المفضل في المحافظات الغربية اما “السادة” فهو المفضل لدى النجف وكربلاء وبغداد وغيرها من محافظات.
خلال السنوات التي عمل بها العمل حسين في المحل طرأت تطورات على تصميم العباءة العربية خصوصاً بعد أن زاد الطلب عليها من فئة الشباب. يقول النجفي “هناك شباب كثر يلبسون الزي المدني في حياتهم اليومية، لكنهم يرغبون بشراء عباءة للمناسبات الخاصة، وهناك أيضاً متجون تلفزيونيون بشترون العباءات لاستخدامها في الأعمال الدرامية، ولهذا السبب هناك محال عديدة في السوق لكن أغلبها تعتمد على المستورد”.
ويسمى بائعو العباءات في العراق “العبايجية” وتتوزع محالهم في في شارع النهر والكاظمية في بغداد فضلا عن متاجر متفرقة في حي العدل وحي المنصور الا ان الأخيرة لم تحقق نجاحاً ملحوظاً لأن “العباءة مطلوبة أكثر في الأحياء الشعبية”.
ورغم سعادته بحرفته وفخره بأنه آخر خياطي الكاظمية المتخصصين بالعباءة التقليدية، يبدو النجفي خائفاً على مصير هذه المهنة. يقول: “علمت اولادي خياطة العباءات محاولاً الحافظ عليها من الاندثار لكن بعد ان كبروا ودخلوا الجامعات تركوها واتجهوا الى اعمال اخرى بسبب ما تحتاجه هذه الحرفة من جهد كبير وما تدره من مكاسب قليلة”.