آثار العراق على طريق الإندثار في ظل الجفاف والعواصف

ورود صالح- ذي قار

على الضفة اليمنى لنهر دجلة المار بمدينة الموصل (405كم شمال بغداد) مازالت آخر أجزاء سور الموصل المشيد قبل أكثر من ألف سنة، والمعروفة بـ(قلعة باشطابيا) صامدة، حتى بعد الحرب مع تنظيم داعش 2017 التي تسببت بهدم جزء من بدنه الرئيسي وزحفه نحو الشاطئ. لكن ما عجزت عنه الحرب يبدو ان التغييرات المناخية ستحدثه.

لم تعد تداعيات التغيرات المناخية لأزمة البيئية المرتبطة بالجفاف والتي يعاني منها العراق منذ سنوات، تقتصر على تراجع الزراعة وتفكك واندثار التجمعات السكانية في العديد من مناطق غربي وجنوبي البلاد، بل باتت تمتد الى مواقع أثرية تأريخية شهيرة، مهددة بتدميرها وإخفائها.

يؤكد مختصون في مجالي الآثار والبيئة، أن تأثير موجات الحر والجفاف والعواصف الرملية المتزايدة، أصبحت تلحق اضرارا لا يمكن اصلاحها ببعض المواقع الأثرية في شمال غربي ووسط وجنوبي العراق، محذرين من أن مدينة “الحضر” قد لا تظل صامدة، وان الرمال تزحف لتخفي مدينة “أم العقارب” التي يعود تاريخها لأكثر من أربعة آلاف عام بما تضمه من معابد وقصور، ما يهدد باندثارها خلال سنوات.

بحسب رئيسيئة العامة للآثار والتراث التابعة لوزارة الثقافة د.ليث حسين، يوجد في العراق أكثر من 150 ألف موقع أثري، تمثل حضارات عديدة من بينها الآشورية والبابلية والأكادية والإسلامية.

تواجه الكثير من تلك المواقع مخاطر عديدة على رأسها عمليات السرقة والنبش العشوائي التي يقوم بها مهرّبو الآثار بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية لاسيما في المناطق الصحراوية، فيما يشكو مسؤولو الهيئة من قلة أعداد الحراس المكلفين بحماية المواقع الأثرية. لكن خطرا آخر كان ماثلا لعقود بتأثيرات محدودة، ظهر بقوة في الأعوام الأخيرة، متمثلا بتزايد الاملاح في التربة وارتفاع الحرارة وتزايد العواصف نتيجة الجفاف.

بنحو عام، شهد العراق في سنة 2022 هبوب عشرة عواصف رملية كبيرة، ضربت مناطق مختلفة فيه بحسب مدير إعلام الانواء الجوية عامر الجابري، ومع أن عاصفة رملية محلية واحدة تم تسجيلها خلال تسعة أشهر من العام الجاري 2023، إلا أن المخاوف مازالت قائمة بشأن هبوب المزيد، ولاسيما أن عوامل هبوبها ماثلة، كزحف الرمال وزوال الغطاء النباتي في أنحاء واسعة، وتقلص المساحات المزروعة، وهذا كله بسبب نقص المياه.

خطر الأملاح

كيف يؤدي الجفاف إلى تدمير الآثار؟ سؤال يجيب عنه أستاذ الآثار بجامعة القادسية د. جعفر الجوذري، إذ يقول بأن نقص المياه نتيجة شح الامطار “يقود إلى ارتفاع تراكيز الملح في التربة وزيادة في العواصف الرملية ومن ثم تآكل المواقع القديمة”.

ويتابع:”مشكلتا قلة المياه الجارية والتصحر بدأت منذ تسعينات القرن المنصرم، أضيف إليها في السنوات الاخيرة استنزاف المياه الجوفية وارتفاع نسب الملوحة والتي تسببت بتطرف تأثير المناخ على العراق بشكل عام”.

ويرى الجوذري، بأن الرياح الهابطة مليئة بكميات كبيرة من الغبار والرمال والطمى بسبب جفاف التربة ما يحمل تأثيرات تساعد على تآكل المباني الأثرية الشاخصة، خاصة أن ارتفاع درجات الحرارة يتسبب في تبخر الماء بسرعة كبيرة ولا تبقى سوى الأملاح التي تؤدي الى تآكل كل شيء.

ويشير إلى أنّ “المشكلة تكمن في التغيرات الكبيرة بين درجات الحرارة في فصلي الصيف والشتاء”، إذ تنخفض الى ما دون الصفر بعدة درجات شتاءً فيما ترتفع صيفاً الى ما يزيد عن 50 درجة مئوية في محافظات الجنوب، وتزيد عن ذلك في الصحاري حيث تتباين درجات الحرارة بشكل كبير بين الليل والنهار، مما يؤدي إلى “إضعاف التربة وتفتيتها خاصة مع قلة الغطاء النباتي وعمليات التمدد والتقلص في المواد المبنية منها الأبنية الأثرية خلال الفصلين”.

ويعتقد الدكتور الجوذري، بأن الدول المجاورة للعراق، لا تتحمل المسؤولية كاملة حيال أزمة المياه الحاصلة فيه، فالحكومات العراقية تتحمل المسؤولية ايضا لسوء إدارة الموارد المائية فيه واتباعها طرق وأساليب الري القديمة، والتي تعود إلى العصر السومري قبل 5000 سنة دون تغيير كبير يذكر.

ويوضح:”يعتمد الفلاحون والمزارعون على الري بطريقة الغمر التي تستهلك كميات هائلة من الماء، وتداعياتها انعكست عليهم بنحو مباشر، إذ دفعهم نقص المياه وبالتالي التوقف عن الزراعة إلى الهجرة الى داخل المدن، وسبقهم في تلك الهجرة، البدو الرحل، وقاطنو الأرياف، فتركت التربة دون استغلال، فباتت عرضة للرياح”.

وعاد للقول: “في بابل مثلا تحولت المياه الجوفية العذبة الى مياه مالحة بسبب ارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي الى تبخر المياه بسرعة كبيرة، فتذوب الاملاح في المياه ثم تتبلور عند وصولها الى مواد البناء وتتمدد داخلها وتؤدي الى تلفها وتكسر الأسس”.

د. داود سلمان بناي، المتخصص بجيولوجيا النفط والتفسير السيزمي، يؤكد بدوره، بان العواصف الغبارية تؤثر على سلامة هياكل الأبنية الأثرية عن طريق حملها للغبار والملوثات التي تؤدي الى تآكل وتلف البنية الأثرية، مما يزيد من احتمالية ظهور تشققات وتصدعات في الهياكل الأثرية.

العراق من بين أكثر الدول تأثراً

أصدرت الأمم المتحدة بياناً في 17حزيران/يونيو 2022 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التصحر، ذكرت فيه أن العراق من بين الدول الخمس الأولى الأكثر تضرراً من التغييرات المناخية، ويأتي في المرتبة 39 بين الدول الاكثر إجهاداً للمياه.

وذكر البيان أن الانخفاض القياسي في معدل سقوط الأمطار في سنة 2021، وهو ثاني أكثر المواسم جفافاً منذ 40 سنة، أدى إلى “نقص المياه والتصحر وتآكل التربة نتيجة الممارسات الزراعية غير المستدامة والى تؤدي الى تضرر وانكماش الغطاء النباتي”.

وعددت الأمم المتحدة جملة من التحديات البيئية التي يواجهها العراق، تمثلت في: “موجات الحر الطويلة، انخفاض معدل هطول الأمطار، نقص وفقدان الأراضي الخصبة، ملوحة التربة، عدم كفاية الاستثمارات في البنية التحتية، نقص المياه العابرة للحدود، انتشار العواصف الترابية”.

وشدد البيان الأممي على ضرورة ما أسماه “تغلب العراق على الغموض السياسي الوطني والإقليمي” للتخفيف من آثار التغييرات المناخية، وتدهور الأراضي، ومعالجة إدارة المياه العابرة للحدود الوطنية، وقيام السلطات الوطنية والمحلية بمتابعة التشريعات على وجه السرعة والممارسات المُحَسّنة المطلوبة لاستهلاك وإدارة مستدامة للمياه.

ودعت الام المتحدة الجهات المعنية في العراق، الى العمل على تثبيت واستقرار التربة وحماية غطائها النباتي من خلال تشجيع الاستخدام الفعال للمياه، وتجديد خزانات المياه، وإعادة تأهيل البنية التحتية لمنظومة الري، وزراعة المزيد من الأشجار والغابات والشجيرات.

وأوصت بزراعة أحزمة خضراء مستدامة حول المدن، والتحكم في أنشطة التعدين، وتحسين جودة التربة وحمايتها من الملوحة من خلال تقنيات زراعية أكثر استدامة، وتوفير حلول ري صديقة للبيئة، وإعادة تأهيل وبناء مهارات المزارعين، وحثهم على استخدام أسلوب الري بالتنقيط و أنواع الري الذكية “لأن من شأن ذلك ان يوفر المياه وأن يكون له أثر في إحداث تحول إيجابي”.

تلك الدعوات الأممية والتوصيات، لن تساعد على تحسين القطاع الزراعي وايقاف عمليات النزوح السكاني من المناطق المتضررة بالجاف فقط، بل ايضا يمكن ان تساهم في تثبيت التربة وتقليل آثار الجفاف وتحسين المناخ وبالتالي تقليل تداعيات الموجات الغبارية على المواقع الأثرية.

يقول عالم الأثار عقيل المنصراوي، بأن الجفاف تسبب بظهور الكثبان الرملية وزيادة عدد العواصف الغبارية التي يصفها بالكارثية، ولاسيما بعد تحول نهري دجلة والفرات، وهما المصدر الرئيسي للري لغالبية فلاحي العراق، خاصة في مناطق جنوبي البلاد، الى مجرد مجريين فيهما مياه شحيحة بسبب قلة الامطار وقلة الواردات من دول الجوار.

ويوضح “وسع هذا من رقعة الجفاف على طول البلاد، وبشكل أكبر من مناطق الوسط حتى أقصى الجنوب، فأصبحت الطبقة السطحية للتربة رقيقة وتتحرك معها الرمال، فتؤدي وبشكل أكبر وأسرع إلى طمر الآثار لتصعب معها مهام فرق البحث الاستكشافية”.

ويؤكد المنصراوي، أنه رصد خلال زياراته للمواقع الأثرية في محافظة ذي قار، جنوبي العراق، تغطية الرمال لمدينة “أم العقارب” التي تعود لأكثر من أربعة آلاف عام، وهي إحدى أهم المدن السومرية “ومن أكثر المدن المعرضة للإندثار خلال السنوات العشر المقبلة”.

وتضم أمّ العقارب، العديد من المعابد، بينها معبد إله سومر “شاراع”، تتوزع على أرض صحراوية مساحتها 5 كيلومتر مربع، وفيها مقبرة تعد الأقدم في التأريخ، ومعبد أبيض وقصر ومقبرة ابتلعتهما الصحراء، يقول المنصرواي أنها جميعا تعاني بالإضافة إلى مواقع أثرية أخرى كأبو الجرابيع وأوما وشميت من تأثيرات ترتبط بالتغير المناخي من بينها “العواصف الرملية المتزايدة، وزيادة ملوحة التربة، وارتفاع درجات الحرارة”، بالإضافة إلى ما تتعرض له أصلاً من أعمال نهب متكررة.

وحذر من ان الكثبان الرملية ستغطي تلك المواقع بنسبة تتجاوز الـ80% خلال السنوات العشر المقبلة، قائلا “أعتقد أن مدينتا أوما وأم العقارب معرضة للاندثار كليا إذا ما بقيت من دون تدخل حكومي يعمل على ايقاف تقدم الرمال نحوها”.

ما هي الحلول

على الرغم من أن الهيئة العامة للآثار والتراث، لا تفصح عن حجم الميزانية الموضوعة لصيانة الأبنية الأثرية الشاخصة، الا أن رئيسها د. ليث مجيد حسين، يؤكد اتخاذ الهيئة إجراءات قال ان هدفها “الحد من تأثير التغيرات المناخية على المواقع الأثرية”.

وتتمثل الاجراءات المتخذة بـ”أعمال صيانة وقائية دورية تجرى تحت أشراف فرق مختصة، بعد أن يتم تحديد المواقع الاكثر احتياجا لها عن طريق فرق كشفية، وأيضاً تسييج المواقع التي تحتاج إلى ذلك”.

وينبه رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث إلى أن كل المواقع الأثرية الشاخصة، عرضة لتأثيرات التغيير المناخي، كما يحدث في “الوركاء وآشور والزقورة، فيما تمتلك المواقع غير المكتشفة حماية طبيعية من آثار تغير المناخ “.

د. داود سلمان بناي، وبخلاف الآراء التي تقول بأن التراكيز الملحية العالية في التربة تؤدي إلى تآكل الآثار، يقول بأن الحل الأمثل لحماية الآثار من التغييرات المناخية هو باستخدام الملح.

ويوضح وجهة نظره:”يمكن استثمار الطبقات الملحية في التربة من خلال عدة طرق متنوعة لتثبيت المواد الأثرية الرخوة وتعزيز استقرارها أو كعنصر في عمليات التثبيت الأثري لحفظ الهياكل الأثرية”.

لكنه يشدد على وجوب استعمال الملح بحذر، والالتزام بالإرشادات المناسبة من قبل علماء الآثار المختصين، ولا سيما أن استخدام الملح بنحو غير صحيح، سيؤدي إلى تلف الآثار بدلاً من الحفاظ عليها، حسب تعبيره.

أما الباحث في الآثار، ومدير هيئة الآثار والتراث السابق في ذي قار، عامر عبد الرزق، فيقدم حلاً آخر لحل مشكلة تعرض المواقع الأثرية للتعرية والآثار السلبية لموجات الرياح، وذلك من خلال تشجير المناطق المحيطة بها: “إنشاء حزام أخضر”، ويرى بأن الأشجار ستشكل مصدات طبيعية، تحمي الأثار وتعطي جمالية لمواقعها.

في حين لا يعتقد د. جعفر الجوذري، بأن التشجير سيجدي نفعاً، لأن المشكلة أصلا “سببها نقص المياه، فمن أين سيتم جلب المياه لسقي الحزام الأخضر”. ووصف الحلول المطروحة في العراق لمعالجة تأثيرات التغيير المناخي بالترقيعية ولا ترقى لمستوى المشكلة، وفقاً لتعبيره.

ودعا بدلاً من ذلك، إلى وضع ملف تداعيات التغيير المناخي كأولوية في خطط الجهات المختصة، من خلال تكثيف عمليات الصيانة وتغطية المواقع التي يمكن أن تتأثر بعوامل التغير المناخي، والاستعانة بخبرات دول نجحت في حماية أو تحييد آثار التغيرات المناخية والتقليل منها إلى أقصى حد ممكن.

يبدي، راكان حسين، وهو موظف متقاعد من مدينة الموصل شغوف بزيارة المواقع الأثرية، قلقه على آثارها بسبب تداعيات التغير المناخي خاصة في جنوبي المحافظة. يقول وهو يحمل صورا لوالده تعود لسبعينات القرن الماضي وهو يقف وسط آثار مدينة الحضر، ويقارنها بصور حديثة له في الموقع ذاته “أنظر الى حجم التهدم والاندثار”.

يضيف بكلمات متقطعة وهو يعدل نظارتيه “كان تأثير العوامل البيئية محدودا في الماضي، لكنه بات كبيرا وخطيرا مع التغيرات المناخية المتطرفة.. ربما سيكون احتمالية صمود هذه الأعمدة والأقواس والنقوش لعقود أخرى ضعيفة جدا اذا لم تقدم معالجات سريعة”.

* انجز التحقيق ضمن مشروع “الصحافة البيئية” بدعم من منظمة “انترنيوز” وتحت اشراف شبكة “نيريج”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى