التوريث السياسي … الأبناء يرثون آباءهم في التكتلات الانتخابية مع تلاشي الأحزاب
بغداد- حسن الناصري
“الكرسي مشروع فيه فلوس خير من الله ليش يروح للغريب” هكذا يصف المعلم الإبتدائي المتقاعد نعيم البديري، قيام سياسيين أو مسؤولين كبار في الدولة، بتقديم أقرباء لهم، كمرشحين في انتخابات مجلس المحافظات التي ستجرى في الثامن عشر من الشهر الجاري، وسط منافسة حامية بين 163 تحالفاً وحزباً سياسيا في عموم المحافظات العراقية بإستثناء اقليم كردستان.
البديري (67 سنة) يقول بأن ملامح وجوه الكثير من المرشحين في ملصقات الدعاية الانتخابية المنتشرة “بنحو هستيري” في كل مكان هذه الأيام، حتى جنبات مواقع رمي النفايات، على حد تعبيره، مطابقة لملامح وجوه الشخصيات السياسية المتنفذة في الحكومة، كما تتماثل عقليتهم وطريقة تفكيرهم.
يدير رأسه بالإتجاهين ويتابع بشيء من الضيق:”الكثير من المرشحين ينتمون إلى عائلات سياسية متنفذة تسعى إلى ترسيخ مفهوم توريث السلطة عبر الأبناء والأحفاد وحتى الأزواج. لم يعد هناك استحقاق حزبي تنظيمي في الترشيحات ولا كفاءة، بل مصالح شخصية وعائلية”.
ويرى البديري الذي يسكن في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، أن “التوريث هو حصيلة للطغيان والاستيلاء على المال العام”، متهما المسؤولين بترشيح ابنائهم أو زوجاتهم “بهدف التمسك بالسلطة والحفاظ على مكتسباتهم المالية التي تحققت عبر صفقات الفساد”.
ما أشار إليه التربوي المتقاعد، هو لسان حال الكثير من العراقيين الذين لايكترثون بما ستفضي إليه الانتخابات المحلية، بناءً على تجارب سابقة لم تأت بجديد بالنسبة إليهم، في وقت تزدحم فيه أرصفة الشوارع وجزراتها بمختلف المدن، بآلاف من اللافتات الدعائية للمرشحين بأحجام مختلفة بعضها ترتفع لعدة امتار من الأرض وتكلف أكثر من الف دولار، وهو أمر تقليدي معتاد يحدث قبيل كل انتخابات تشريعية محلية أو برلمانية في العراق.
لكن ما هو غير معتاد في هذه الانتخابات، هو حجم ترشيحات قادة الأحزاب والحركات السياسية والتيارات لأبنائهم وبناتهم وأقاربهم، حيث ترصد وجوه أبناء العديد من السياسيين والمسؤولين العراقيين السابقين أو الحاليين ممن لا تجارب سياسية لهم وأحيانا لا مؤهلات عملية، ضمن اللافتات تلك، وهو ما أثار جدلاً في الشارع العراقي، حيال ما يوصف الآن بمرحلة توريث سياسية خطرة “يكون فيها الأبناء إمتداداً لمشاريع الفساد التي بدأها الآباء” على حد تعبير الناشط المدني كارزان احمد.
كما أن البعض يرى في ذلك، تجسيداً لمرحلة عجز فيها المشهد السياسي عن الدفع بنخب جديدة لقيادة البلاد، خاصة مع تراجع التنظيمات الحزبية في مواجهات حركات بلا هياكل تنظيمية ولا رؤى فكرية او حتى سياسية عقائدية، فيدفع سياسيون فقدوا فرصهم أو انتهت أدوارهم، بأبنائهم في اي تكتل يعتقدون باحتمال فوزه، حتى لو لم تحمل أجنداتهم وتوجهاتهم ذاتها.
وكانت آخر انتخابات لمجالس المحافظات أجريت عام 2013، قبل أن يصدر مجلس النواب قرارا بحلها في العام 2019، عقب تظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي اندلعت وكان أبرز مطالبها حل مجالس المحافظات باعتبارها حلقة زائدة فشلت في تطوير واقع المحافظات وكانت السبب في تدهور الخدمات فيها، نتيجة تورط أعضائها بمشاريع شابها الفساد وسوء الانجاز او لم تكتمل أبداً وخسرت معها الدولة مليارات الدولارات.
توريث سياسي
رصد معد التقرير من بين أسماء المرشحين في انتخابات مجالس المحافظات العديد من أبناء وأشقاء وأبناء عمومة وأقرباء بدرجات أخرى لسياسيين ومسؤولين عراقيين بارزين، من بينهم، حسان ثابت العباسي، وهو ابن وزير الدفاع الحالي ثابت العباسي، عن محافظة نينوى.
وعن ذات المحافظة، عبد الله أثيل النجيفي، وهو نجل محافظ نينوى الأسبق ولدورتين متتاليتين، أثيل النجيفي الذي أقيل من منصبه بقرار برلماني في 2015 وصدرت ضده احكام قضائية غيابية عدة أحدها بتهمة التخابر مع جهات اجنبية.
وكذلك مهند نجم الجبوري، وهو أبن محافظ نينوى السابق نجم الجبوري، الذي أقيل من منصبه في تشرين الثاني/نوفمبر2023 بقرار قضائي وفقاً لأحكام قانون المساءلة والعدالة (المعروف باجتثاث البعث). ويظهر كذلك أسم المرشح محمد الجبوري، وهو الشقيق الأصغر لعضو مجلس النواب الحالي أحمد الجبوري.
ومن البصرة، المرشح فواز عبد السلام المالكي، وهو شقيق عضو مجلس النواب ضرغام المالكي، والمرشح علي سليمون، عن محافظة واسط، وهو زوج عضو مجلس النواب وفاء الشمري .
ومن بغداد، هنالك المرشحة سندس نصيف جاسم، وهي شقيقة عضوة مجلس النواب عالية نصيف، والمرشح حميد غزال المساري، وهو شقيق عضوة مجلس النواب، عائشة غزال المساري. والمرشحة نور مزهر العزاوي، وهي ابنة عضوة مجلس النواب شذى العزاوي.
كما ويبرز أسم المرشح محمد باقر سالم المسلماوي، وهو ابن محافظ بابل السابق سالم المسلماوي، ومن محافظة ذي قار هنالك المرشحة اسراء علي الغرابي، وهي شقيقة رئيس حزب البيت الوطني حسين الغرابي، والمرشحة رواسي كريم الجابري، وهي ابنة النائب أمل عطية .
وهناك عشرات الأسماء الأخرى لمرشحين، ميزتهم الوحيدة انهم أقارب مسؤولين او نواب حاليين او سابقين، فيما تستعد عوائل وجدت نفسها فجأة داخل الحلبة السياسة بعد 2003، لتقديم مرشحين آخرين لانتخابات البرلمان المقبلة حيث يتم الترويج لهم جماهيريا وسياسيا منذ الآن.
أبعاد ونتائح مستقبلية
التوريث السياسي في العراق ليس بالأمر الجديد، فقد مورس كنهج ضمن انظمة سياسية سابقة لإدارة السلطة، وفقا لما يقوله رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، احسان الشمري، الذي يرى بأن ما يصفها بظاهرة التوريث تمثل أزمة وعي سياسي “لدى من يعمل على تثبيت العائلة كمصدر للنفوذ والسلطة والحكم”.
وهو يعتقد بأن التوريث يدخل ضمن اطار الحفاظ على ما يتحقق لعائلة أو لشخص أو زعيم سياسي من نفوذ وأموال وبالشكل الذي يحول هذه الزعامة والعائلة الى طبقة ارستقراطية سياسية متمددة، على حد توصيفه.
ويضيف:”من جهة أخرى تمثل ظاهرة التوريث السياسي ووجود المقربين في دائرة القرار الأولى دليلاً واضحاً على عدم الوثوق بالآخرين حتى لو كانوا من ضمن دائرة الحزب الواحد، ولذلك فهم يحاولون استدامة النفوذ عبر الأقرباء”.
كما يرى الشمري بأن هذا، يمثل تراجعا كبيراً في التعاطي مع مفهوم المشاركة السياسية والتنافس وتكافؤ الفرص “ويسهم في نسف المبادئ الديمقراطية وإحداث فجوة كبيرة في البلاد في ظل ديمقراطية مشوهة”.
وفي هذا الإطار ذكر القيادي في حركة امتداد مسعد الراجحي، بأن “واقع السياسة العراقية أثبت فشل ادعاء الاحزاب التقليدية التي تشكلت بعد العام 2003 بأنها تستطيع قيادة العملية السياسية في العراق”، ويشير إلى أن تلك الاحزاب “عملت على ترسيخ الانشقاق والتشرذم المجتمعي والحيلولة دون الانتماء الى جسد الدولة التي تمثل مظلة المواطنة الصالحة”.
ويتابع “هذه المعادلة الاقطاعية والطائفية والقومية افرزت شخصيات تمسك بزمام الأمور دون كفاءة، وهي غير قادرة على فهم أسس الدولة والمواطنة، وبالتالي ورثت شخصيات فاشلة وسببت تراجعاً ويأساً في الشارع العراقي”.
وينفي الراجحي، أن يكون من يصفهم برجالات العائلات الحاكمة، مؤمنين بالدولة أو بالقضاء، ويعود ليتهمهم بفرض سطوتهم على كل مفاصل البلاد والسعي والتعمد بأن يصبح المجتمع منقسماً على نفسه لضمان ديمومة السلطة “بين أيديهم وابنائهم وازواجهم الذين فرضوا وجودهم بفعل المال وقوة السلاح”.
ويصف الناشط كارزان احمد، عملية التوريث السياسي الحاصلة بأنها دليل على فشل المنظومة الحاكمة في بناء حياة حزبية سليمة. ويقول “من الواضح ان الأحزاب التقليدية تتراجع، ولم يعد لها قوة الحضور والتأثير مع تفكك الشبكات التنظيمية التي تديم قوتها، ونتيجة الخوف من نتائج ذلك بات قادتها يضعون أبناءهم وأقاربهم في اعلى هرم المسؤولية لضمان ادامة مصالحهم”.
ويضيف “ذلك دفع بعض القوى السياسية في السنوات السابقة الى تقديم مرشحين من خارج هياكلها التنظيمية لمجرد كونهم من عشائر تملك قوة تصويتية جيدة، متخلية بذلك عن كوادرها من الكفاءات الحزبية”. ومع تراجع الاحزاب وغلبة التيارات والتكتلات الانتخابية التي لا تجمع أعضاءها رؤى فكرية وسياسية، بات من السهل ترشيح الأبناء والأقارب، لمجرد إدمة امتيازات المناصب.
وسيلة لإدامة الثروات
في بعض الأحيان، قد تلجأ أحزاب السلطة إلى اختيار أفراد من عائلة سياسي فيها، حتى وإن لم يكن شقيقاً له او من صلبه، في اطار ادامة المصالح، كون السياسة تمثل مصدر التربح المالي الأكبر في العراق مع موازنات سنوية تصل الى 100 مليار دولار وفي ظل استشراء الفساد واقرار المشاريع وفق قواعد مصالح الجهات المتنفذة.
ادامة الاستثمار السياسي تفرض سياسة توريث المنصاب. ربما وفق ذلك يخوض المرشح ماجد سعيد المالكي السباق الانتخابي عن محافظة كربلاء وهو ابن عم رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، كما يخوض الانتخابات المرشح ذو الفقار ثامر الفياض عن محافظة بغداد، وهو ابن عم رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض . وعن محافظة بابل، هنالك المرشح أحمد بدر وتوت، وهو ابن عم عضو مجلس النواب ياسر اسكندر وتوت.
رئيس مركز العراق للدراسات محمد الهاشمي يعبر عن استغرابه من استفحال التوريث السياسي، ويقول بأنها “تمثل خرقا لأسس الديمقراطية السليمة ومصادرة لحق أبناء الشعب في التمثيل وصنع القرار والمساهمة في المستقبل السياسي، التوريث يعني الغاءً لتطلعات الشعب والدستور والديمقراطية وايكال الأمور الى ابناء المسؤولين واحفادهم وازواجهم ولجانهم الاقتصادية التي تمتلك المال الذي يساعد على كسب بعض الاصوات”.
ويعلل ظهور التوريث السياسي في العراق، لوجود “ثروة مالية سائبة وفاسدة، لا يريد رئيس الحزب أو المجموعة أن تخرج من تحت سلطته، ولذلك فهو دائم السعي في أن تستمر اسرهم في الحاكمية، وبذلك يجعل من السياسة وسيلة لتعظيم ثرواتهم وزيادة نفوذهم وسيطرتهم على مفاصل الدولة”.
ويمضي الهاشمي إلى القول إن “كل أحزاب السلطة متهمة بترسيخ الظاهرة، ففي كردستان نجد حاكمية الاسرة واضحة والهيمنة على كل قطاعات الامن والسياسة والاقتصاد، ونجده ايضا في الجانب الشيعي والسني، وكذا حتى الاحزاب التي تدعي بانها ولدت من تجارب ديمقراطية أو تدعي المدنية”.
هيمنة العائلات السياسية
ما يمهد الطريق أمام زعماء القوى السياسية لإقحام أبنائهم في الوسط السياسي، هو قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية، تهيمن العائلات السياسية التقليدية بموجبه على المشهد السياسي، حتى وإن قدم الوارثون أنفسهم بواجهات مغايرة او على أنهم من قوى التغيير.
هذا ما يقوله الخبير في الشأن السياسي مخلد حازم، ويلقي باللائمة على الادارة الامريكية التي يقول بأنها “أتت بشخصيات لم تكن تحلم بالحكم يوما، لكن ما أن تسلموا السلطة حتى بدأوا بإنشاء احزاب وفصائل مسلحة لخدمة مشاريعهم”.
ويجد أن ظهور التوريث السياسي في العراق حالياً مؤشر سلبي جديد على اتجاه الديمقراطية، لأنه كان يعتقد بانه انحصر في أنظمة الحكم الملكية أو الاميرية والشمولية فقط، ويضيف بسخرية:”يعتقد هؤلاء الكهول أن ترك الهيمنة على السلطة والمغانم امر قد ينقلب عليهم في يوما من الايام بالتالي بدأوا بوضع خطط بديلة من خلال زج الاصهار والاولاد والاقارب والزوجات في المعترك السياسي ودعمهم من أجل الحصول على مناصب في الدولة وضمان أصواتهم الحزبية وبقائهم”.
ويصف الحملات الانتخابية الجارية لإنتخابات مجالس المحافظات بالكارثة الحقيقية: “رؤساء الكتل السياسية التي لها مقاعد في البرلمان يرشحون أقربائهم المدعومين بامتيازات السلطة للحصول على مقاعد في مجالس المحافظات”. ويضيف هؤلاء يمتازون عن المرشحين الاخرين “بالدعم المالي الكبير”.
ويتفق مع الآراء التي تقول بان ذلك يأتي نتيجة فقدان الثقة بين رؤوساء الكتل السياسية وأعضائها، فتوجهوا نحو توريث السلطة لأبنائهم واحفادهم وسواهم من الأقارب.
التوريث والفساد
عضو مجلس النواب عن قوى تشرين، سالم سجاد، يقول بان التوريث السياسي يجري دون مبالاة بإرادة الشعب ورغبته في التغيير، مما يؤدي إلى توترات سياسية وردود أفعال تعيق التنمية وتزعزع الاستقرار في البلاد، ودعا إلى معاقبة أحزاب السلطة وافشال نواياهم، على حد تعبيره.
ويلفت إلى أن المجتمع العراقي قد يكون مساهماً من حيث لا يعلم بترسيخ هذه الثقافة، أي التوريث السياسي التي يقول بانها لا تنم الا عن “حالة من الإستعباد القسري، ويجب علينا التصدي لها عبر رفض منح شرف التمثيل السياسي لهؤلاء المدفوعين من الأحزاب”.
ويعتقد سالم سجاد بان اهمال مكافحة الفساد وضعف الدور المؤسساتي في اساليب الردع وغياب قانون “من اين لك هذا” مكّن تلك العائلات السياسية من توريث السلطة لأبنائها، وأن “موارد الدولة موجهة لمصالح ضيقة من الاحزاب وعوائلهم، وبهذه الحالة تبقى الحقوق المدنية غير متوفرة للجماهير”.
ويشبه الكاتب والصحافي الشاب محمد العامري، ما يحدث في انتخابات مجالس المحافظات بـ”النظام الملكي” من جهة توريث السلطة ونقلها من بعض الأباء السياسيين إلى الأقرباء، ويجزم بأن جميع المرشحين المقربين من المسؤولين هم غير مؤهلين للمشاركة في العملية السياسية أو خدمة المواطنين وهم بعيدون كل البعد عن واقع الشارع وتطلعاته.
“هذا واقع مؤسف” يقول بنبرة ألم، ويتابع:”السلطة تهتم في العادة بأبناء الطبقة الحاكمة ولا تهتم بالمواطن العادي لأن ذلك ليس جزءاً من ثقافتها، وبالتالي فان من الطبيعي أن نرى ظاهرة توريث السلطة تتفشى في العراق”.
العامري يقول بانه سيشارك في الانتخابات، ليس من أجل الإدلاء بصوته وإنما لإتلاف ورقته الانتخابية، لمنع سرقتها من قبل مافيات الأحزاب التي تسيطر على مراكز الاقتراع، وفي انتظار ولادة البديل الذي لم يأت بعد، على حد تعبيره.
- أنجز التقرير بإشراف شبكة “نيريج” للصحافة الإستقصائية.