الفساد يلتصق بمشاريع نينوى ومؤسساتها بمرحلة ما بعد داعش

نوزت شمدين/نينوى

(مازن، أ) (46 سنة) كاسبٌ من مدينة الموصل، راجع دائرة الضريبة في الجانب الأيسر للمدينة كجزء من متطلبات قيامه بتحويل ملكية عقار باعه مطلع عام 2023، ليكتشف أنه مدين للضريبة ولسنوات عدة، بما يزيد عن  700 ألف دينار (535 دولار) عليه تسديدها قبل أن يسمح له بمواصلة ترويج معاملته.

يقول بأنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها موقفاً مماثلاً في ذات الدائرة:”كلما تكون لدي معاملة في الضريبة، يظهرون لي مبلغاً من الكمبيوتر، ويقولون بأنها رسوم متراكمة منذ سنة 2010، ويخيرونني بين تسديدها أو دفع مبلغ كرشوة لتأجيل سدادها، فأقوم بدفع الرشوة لكي أمضي في المعاملة، لكن الدين يظل بذمتي وأنا لا أعرف أصلا عن ماذا، فحين أسألهم يخبرونني ان الأوليات ضائعة، فكيف ضاعت الأوليات وبقي الدين علي؟”.

ثم يشير بإيمائة من رأسه إلى رزمة الأوراق التي بين يديه:”كل دائرة حكومية أدخلها، يتوجب علي دفع مبلغ لواحد من الموظفين او المعقبين فيها من أجل تسهيل الأمور، وإلا فأنهم يضعون ألف عقبة أمامي ويعطلون عملي”.

وتساءل عن دور هيئة النزاهة والقضاء والشرطة، بينما المؤسسات الحكومية على حد تعبيره غارقة في الفساد “أصبح الفساد بعد فترة داعش، هو القاعدة، والنزاهة استثناء”.

سيطر تنظيم داعش على محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل في العاشر من حزيران 2014 ولم يخرج منها إلا بعد حرب طاحنة انتهت بهزيمته في تموز/يوليو 2017 مخلفة دماراً كبيراً في البنى التحية العامة والخاصة، ومقتل الآلاف.

بعد استعادة السيطرة عليها من قبل الجيش العراقي المسنود بمقاتلي الحشد الشعبي ومع الدعم الامريكي، بدأت في النصف الثاني من 2017 محاولات لإعادة الحياة إليها، بدءاً من وضع خطة لإرجاع نحو مليوني نازح في مختلف أنحاء البلاد إلى مناطق سكناهم الأصلية في أقضية ونواحي نينوى، ورصد الأموال لإعادة مادمرته الحرب.

وهكذا، نشأت الأجواء المناسبة لتفشي ظاهرة الفساد في المؤسسة الحكومية وفقاً للباحث والناشط في الشأن السياسي عبد السلام نعمان خيري، والتي يقول بأنها ماثلة لغاية الساعة على الرغم من مرور ما يزيد عن ست سنوات من التخلص من داعش، واعتقال العشرات من الموظفين بتهم الفساد ومحاكمة بعضهم لسنوات في قضايا مختلفة.

بعض المعتقلين والمحكومين شغلوا مناصب كبيرة مثل المحافظ الأسبق نوفل العاكوب، الذي أقيل بقرار برلماني في آذار 2019، وخضع لسلسلة من المحاكمات بتهم الفساد وهدر المال العام وسجن لما يزيد عن 20 سنة، وكذلك معاون محافظ نينوى لشؤون التخطيط رعد العباسي، الذي صدر حكم ضده منتصف 2023 بالحبس الشديد لخمس سنوات بتهمة الفساد، ثم خففت محكمة التمييز الحكم إلى حبس لمدة سنتين.

وصدر في الخامس من أيار/مايو2023 حكم غيابي بالسجن 15 سنة بحق رئيس مجلس محافظة نينوى السابق بشار الكيكي، وفقاً للمادة 315  لاقترافه جريمة الاختلاس فضلاً عن العشرات من موظفي ديوان محافظة نينوى ودوائر التسجيل العقاري/الأيسر والبلدية والمجاري إضافة إلى موظفين في جمعيات إسكان تعاونية، اتهموا بالفساد والاستيلاء على أموال عامة كالعقارات.

ويشير عبد السلام، أن كل ذلك نتج عن تحرك فاعل لهيئة النزاهة، وآخرها إستقدام النائب الثاني لمحافظ نينوى حسن العلاف، في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2023 بسبب مخالفات إدارية، وأنه ذاته كان قد خضع للتحقيق في مناسبات سابقة بتهمة الفساد والاستيلاء على أموال مخصصة للنازحين.

وشملت التحقيقات واوامر الاعتقال والاستقدام عشرات الموظفين الحكوميين غالبيتهم شغلوا مواقع في الدوائر الحكومية التنفيذية او مناصب في الادارات المحلية بالمحافظة.

الأحزاب ومكاتبها الاقتصادية

ويعدد عبد السلام، مصادر الفساد في نينوى بعد مرحلة داعش بقوله:”أبرزها ما يعرف بالمكاتب الاقتصادية المرتبطة بالحشد الشعبي الذي مسك الأرض عقب تحرير نينوى من داعش، وهي فعليا تتبع أحزاب شيعية ذات أجنحة مسلحة، إذ فرضت نسباً على مبالغ المشاريع الحكومية، واستولت على عقارات تابعة للدولة، عبر مدراء عامين عينتهم وفقاً للمحاصصة في الدوائر الحكومية وكذلك ديوان محافظة نينوى، إذ تحصل تلك المكاتب على نسب من المشاريع العامة”.

ليس سراً ما قاله الناشط عبد السلام إذ أن العديد من أعضاء مجلس النواب فضلاً عن محافظ نينوى السابق نجم الجبوري، المقال وفقا لقانون المساءلة والعدالة (المعروف باجتثاث البعث) في تشرين الثاني/نوفمبر2023،  اكدوا وجود المكاتب الأقتصادية واستيلائها على المال العام دون أن تتمكن أجهزة الدولة المعنية من محاسبتها.

والجبوري قالها صراحة في حديث إذاعي سنة 2022، بان المكاتب الأقتصادية يتقاضون 10% كنسبة من المبالغ المخصصة للمشاريع الحكومية.

لكن تبقى تلك المكاتب في العادة بعيدةً عن المساءلة القانونية، وتصدر أوامر الإعتقال أو الاحكام القضائية فقط ضد أشخاص هم مسؤولون صغار او موظفون نفذوا أوامرها، وبحسب عاملين في مجال القضاء، لايتم”ذكر المكاتب الاقتصادية التابعة للأحزاب مطلقا في التحقيقات القضائية”.

وفي السابع من كانون الأول/ديسمبر2023، فتح محافظ نينوى الجديد عبد القادر الدخيل، ملف المكاتب الاقتصادية في المحافظة، إذ حذر خلال اجتماع رسمي عقد في مقر ديوان المحافظة، مدراء الدوائر الحكومية من التعاون مع المكاتب الاقتصادية للإحزاب المتواجدة في مدينة الموصل.

وهدد بمحاسبة المدراء والموظفين الذين يثبت تعاونهم مع تلك المكاتب، وأوضح:”انهم يمهدون لها الطريق للدخول بالمزايدات والاستيلاء على العديد من المشاريع والمحال والأراضي”. وقال:”سنحاسب وبشدة المتعاونين مع المكاتب الاقتصادية على حساب المال العام”.

ولم يشر الدخيل صراحة إلى أسماء من وصفهم بالمتعاونين مع المكاتب الاقتصادية، لكنه ذكر:” سنتخذ كل الطرق القانونية للحد من هذه الظاهرة ولدينا المعلومات الكاملة عن أولئك المتعاونين”.

الكاتب عادل كمال، يقول بأن المكاتب الاقتصادية والأحزاب السياسية والعصابات الإجرامية، “سال لعابها للمبالغ التي خصصت لإعمار نينوى والتي بلغت منذ 2019 أكثر من ثلاثة مليار دولار، وحصلت على مبالغ منها بطرق شتى، سواءً بالحصول على مشاريع تنفذها عبر شركاتها او شركات قريبة او الحصول على حصص (نسب) من مبالغ مشاريع وافقوا على احالتها، كما أنها أستولت على ملايين الأطنان من الحديد المستعمل، واكثر من ثلاثة آلاف عقار، معظمها يعود للدولة”.

وشكك بقدرة المحافظ عبد القادر الدخيل، على تنفيذ تهديده بمحاسبة المتعاونين مع المكاتب الاقتصادية، قائلا :”الدخيل، تم تعيينه لحين إجراء انتخابات مجالس المحافظات التي ستجري في 18 كانون الأول الجاري ويتم بعدها بأسابيع اختيار محافظ جديد، وهي فترة غير كافية حتى لتوجيه إنذارات لمن يقول بانهم يتعاونون مع المكاتب الاقتصادية!”.

وهو يرى كذلك، بان سلطة المحافظ الجديد محدودة وليس بوسعه مساءلة المكاتب الاقتصادية التي ترتبط باحزاب قوية تشكل الحكومة المركزية في بغداد، ويستدرك:”الدخيل تم تعيينه بنحو مؤقت من قبل تلك الأحزاب، وحديثه عن الوقوف بوجهها، مجرد محاولة أثبات وجود لا غير، وهو يعرف قبل غيره، أنه والمحافظ الذي سيتم انتخابه بعد اجراء الانتخابات، لن يكون بوسعهما منع المكاتب الاقتصادية من الحصول على ما تريد، لأنها تملك السلطة وميليشيات مسلحة توفر لها الحماية والدعم، وعملياً فان هذه الميليشيات، قوتها تفوق الأجهزة الأمنية”.

ويعود عادل كمال للقول:”قديما كان ما يعطل البناء والاعمار وتطوير الخدمات عدم الاستقرار الأمني بسبب عمليات الجماعات المسلحة التي كانت تخرق الأمن، اليوم هنالك جماعات مسلحة تحفظ الأمن، لكنها تزعزع الاستقرار الاقتصادي وتعطل اعادة البناء باستنزافها موارد الدولة عبر فرض حصصها من كل مشروع يقر تنفيذه”.

الفساد شعار انتخابي

مع استمرار مشكلة الفساد التي تعد أكبر مشكلة تهدد مشاريع اعادة البناء وتقديم الخدمات في نينوى، ومع التحقيقات التي تطال في غالبها مسؤولين حكوميين صغار دون الوصول الى القادة في ظل افلاتهم من العقاب، تتعالى شعارات “مواجهة الفساد” في الحملات الانتخابية لمجلس محافظة نينوى من قبل مختلف الأحزاب السنية والشيعية والكردية المتنافسة للفوز بمقاعد في المجلس الذي سيضم 29 مقعدا ثلاثة منها للمكونات.

ومع شبهات الفساد التي تطال بعض المسؤولين والمشاكل المتعلقة بقانونية ترشيحهم بوجود ملفات بحقهم، فانهم حرصوا على ترشيح أبنائهم بدلاً عنهم ليخوضوا غمار الانتخابات، أبرزهم، الشاب مهند، وهو نجل محافظ نينوى السابق نجم الجبوري، الذي كان من المزمع ترشحه في الانتخابات  عن قائمة نينوى لأهلها التي يتزعمها، لولا قرار إقالته وفقاً لقانون الإجتثاث.

ومهند هذا كان ضابطاً في جهاز الأمن الوطني، إستقال من وظيفته بناء على طلب من والده وفقاً لمقربين منهما، بغية دخوله المجال السياسي. لكن هنالك في نينوى من يتهم مهند الجبوري، بتقاضي عمولات ورشاوى بدلاً عن والده خلال فترة توليه منصبه، وتمت مناقشة تلك الاتهامات بجدية في القسم الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، عندما دخل مع أفراد حمايته في شجار مع جار له في منطقة حي الوحدة بالجانب الأيسر لمدينة الموصل،  واطلق خلالها النار، فأصيب شخص واحد بجراح، وذكر شهود عيان، بان مهند الجبوري وحمايته كانوا في حالة سكر شديد، ليسود الشك في إمكانية فوزه بمقعد في الانتخابات المحلية.

لكن نجم الجبوري، ليس المسؤول السابق الوحيد الذي يقدم أبنه ليخوض بدلاً عنه غمار الانتخابات، إذ سبقه في ذلك محافظ نينوى لدورتين سابقتين أثيل النجيفي الذي أقيل بقرار برلماني في 2015، وصدرت ضده احكام غيابية بالسجن، بتقديمه إبنه عبد الله، ليدخل الانتخابات التشريعية في نهاية 2021 لكنه لم يحقق الأصوات التي تؤهله للحصول على مقعد برلماني.

فدخل هذه المرة، مسؤولاً عن تنظيمات نينوى لحزب متحدون، بدلاً عنه، ويترشح للإنتخابات المحلية عن قائمة الحسم الوطنية. وانطبق ذات الامر على ثابت العباسي وزير الدفاع الذي قدم أبنه حسان، ضم قائمة نينوى لأهلها.

ومع ان حظوظ الأبناء ليست كالآباء في الوصول إلى المناصب التي تضمن استمرار الامتيازات، إلا أن ثمة من يرى بأن ذلك مؤشر على فساد الطبقة السياسية، لأنهم يعتقدون بان عملية الترويث السياسي هذه، تستخدم فيها أموال فساد تم الحصول عليها خلال تولي الأباء مناصبهم، ولا سيما ان الدعاية الانتخابية للبعض من الأبناء باهظة التكاليف مقارنة بغيرهم من المرشحين حيث تنتشر في كل مكان وبلافتات عملاقة وحتى اعلانات تلفزيونية واخرى على شبكات التواصل.

وعن الفساد، تقول المرشحة لإنتخابات مجالس المحافظات، جميلة حمران نامس الجبوري، وهي تدريسية في جامعة الحمدانية، بان “نينوى تعاني من الفساد في المؤسسات الحكومية، وانها ترصد ذلك من خلال المشاريع المتلكئة والنقص الكبير في الخدمات على مستويات البلدية والتعليم والصحة، على حد وصفها”.

ويبدو أن هذا التصريح الذي خرجت به للإعلام المحلي في نينوى، يمثل برنامجها الإنتخابي، لكنها تكتفي بقول ما يعرفه الجميع أي وجود الفساد، لكنها لاتفصح عن طريقة مواجهته، أو ما ستقوم به هي لمواجهته في حال فازت بمقعد في مجلس المحافظة.

وشعار الفساد، يرفعه غالبية المرشحين سواء المرتبطين باحزاب أو الذين يقدمون أنفسهم كمستقلين، ويذكر الباحث المتخصص في الشأن السياسي برهان حازم، أن “شعار محاربة الفساد سهل الرفع، لكن تنفيذه شبه مستحيل، لأن أعضاء السلطة التشريعة أنفسهم متورطون فيه”.

ويوضح:”من خلال التجربة، نجد بأن أعضاء مجلسي المحافظة والنواب، يعملون لصالح أحزابهم، وهم يوقعون على تعهدات خاصة بذلك، ويحررون على أنفسهم وصولات مالية بمبالغ كبيرة جداً لضمان تعهداتهم، ورئيس مجلس النواب السابق ذاته محمد الحلبوسي، أقيل من منصبه بقرار قضائي بسبب ذلك، كما ان الأعضاء هؤلاء أو من يتولون مناصب إدارية بعد الفوز بالانتخابات، يكون جمع الأموال لأحزابهم هو الشغل الشاغل لهم، لهذا فان دوامة الفساد ستظل دائرة في العراق إلى أجل بعيد”.

الفساد الأكبر: عقود المشاريع

بيدر شامل (39سنة)مهندس مدني يعمل لحسابه الخاص، يقول بأن الفساد موجود في جميع الدوائر الحكومية التي تكون على تماس مباشر مع المواطنين وهذا ما يتم تلمسه بسهولة، وأن في كل واحدة منها وسطاء يربطون بين أصحاب المعاملات وموظفين فيها “ولكل معاملة سعرها” يقول وهو يقطب حاجبيه ويرفع صوته في اشارة احتجاج.

ويشير الى الفساد الأكبر المتمثل فيما يصفه بتمرير عقود المشاريع، حيث تحصل الاحزاب النافذة على حصصها المالية قبل تمرير اي مشروع ما يؤثر على جودة الانجاز وطبعا الكلفة النهائية.

ويعدد أشكال الفساد الحكومي في نينوى:”الاهتمام المبالغ به بتبليط وصبغ الأرصفة والشوارع، وترك المستشفيات المدمرة بسبب الحرب على داعش دون اعادة بناء، وبقاء المستشفيات في المواقع البديلة كالكرفانات(مشيدات مؤقتة) دون معالجة مشكلتها بما فيه ما يتعلق بافتقادها الأدوية الأساسية، والحصول على إجازة السوق وجواز السفر والبطاقة الوطنية وصورة قيد العقار ووظيفة في دائرة حكومية مقابل المال، حتى رسائل واطروحات الدكتوراه يمكن الحصول عليها بالمال”.

ويؤكد أنه شخصياً تعرض ولمرات عديدة إلى مضايقات من موظفين في دوائر اضطر لمراجعتها من أجل أن يرضخ ويسدد لهم رشاوى، والأمر عينه حدث لأقرباء له وأصدقاء ومعارف، حسبما يقول.

يصف ضابط في الأمن الوطني بنينوى، طلب عدم إيراد أسمه، مرحلة ما بعد داعش في المحافظة بانها مرحلة فساد، ويقول بأن المتفاخرين بأنهم ساهموا بطرد داعش، هم أكثر الجهات فساداً، سواء في الأجهزة الأمنية أو الحشد الشعبي أو الحكومة المحلية.

ويستشهد:”المحافظ نوفل العاكوب، ورئيس مجلس المحافظة بشار الكيكي، ومعاون المحافظ رعد العباسي، ونائب محافظ نينوى حسن العلاف وقائمقام الموصل زهير الأعرجي، كلهم، أقيلوا أو حكم عليهم بالسجن أو تم التحقيق معهم بسبب إتهامات بالفساد، وجميعهم كانوا يقدمون أنفسهم كمقاتلين خلال حرب التحرير من داعش، وبعضهم كان يرتدي الزي العسكري في وقتها، ويصفهم جمهورهم بالأبطال”.

  • أنجز التقرير بإشراف من شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية وبدعم من منحة صندوق غرب آسيا وشمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى