علي الوردي بين العراقيين من جديد

بغداد- مصطفى جمال مراد

السمة التي تميز معظم القبور في أرجاء العالم أنها منعزلة عن مساكن البشر لكن قبر عالم الاجتماع علي الوردي يخالف هذه القاعدة، وكأنّ الوردي الملقّب بمؤسس علم الاجتماع العربي الحديث والذي أمضى حياته منشغلاً بهموم المجتمع العراقي، أراد أن لا يفارق الناس الذين كتب عنهم، حتى بعد مماته.

*** 

في محيط جامع براثا وتحديداً على رصيف الشارع الواقع أمام الجامع إلى جانب طريق عام يمكن مشاهدة قطعة من الرخام الأسود مستلقية على الأرض وفوقها كتابة تشير إلى موقع دفن العلامة علي حسين محسن الوردي المتوفي سنة 1995.

يبدو مكان القبر غريباً بعض الشيء إذ لم يعتد أحد من الأهالي على تواجد ضريح على رصيفٍ بمحاذاة شارع عام تمر منه مئات وربما آلاف السيارات يومياً، لكن على ما يبدو فإن أمنية الوردي تحققت بأن لا يبتعد عن أهالي مدينته.

ولد الوردي في مدينة الكاظمية 1913 ونشأ في أسرة متوسطة الحال والتحق بالمدرسة الابتدائية في الكاظمية ثم تركها ليعمل عطاراً، لكن صاحب المحل طرده لأن الطفل علي الوردي كان منشغلاً عن الزبائن بقراءة الكتب والمجلات.

عاد الوردي لإكمال دراسته وحصل على شهادة البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1943 ثم حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس في الولايات المتحدة سنة 1950 ثم التحق بكلية الملكة عالية التي صار اسمها اليوم جامعة بغداد، وأصبح محاضراً جامعياً فيها.

منذ تخرجه كتب الوردي ثمانية عشر كتاباً ومئات البحوث والمقالات، خمسة منها قبل ثورة 14 تموز 1958 تميزت بأسلوبها الأدبي والنقدي ومضامينها التنويرية الجديدة والساخرة مثل كتاب “وعاظ السلاطين” الذي انتقد فيه تقرّب المثقفين من دوائر الحكم ومنافقتهم لذوي النفوذ، أما كتبه التي ألفها بعد الثورة فمثّلت مشروعاً فريداً من نوعه لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي، وفي مقدمتها كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” و”منطق ابن خلدونو”لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” الذي صدر في ثمانية أجزاء ويعد أشمل وأهم ما كتب.

يقول أبو علي الصغير، أحد أقرباء الوردي وهو رجل ستيني اعتاد التردد على جامع براثا منذ ثلاثين سنة، إن عالم الاجتماع الكبير، زوج خالته، كان قبل موته قد وضع وصيته سراً لدى زوجته.

وأكمل قائلا “لقد حدد زوج خالتي في وصيته ثلاثة أمكنة يدفن فيها وهي الصحن الكاظمي أو المقبرة الواقعة في محيط الكاظمية أو جامع براثا”.

وكان الوردي قبل وفاته مقيماً في منزله بمنطقة الأعظمية يعاني من مرض السرطان وقد تم نقله إلى الأردن لتلقي العلاج فتوفي في مدينة عمّان لينقل جثمانه إلى العاصمة العراقية.

وبعد رفض السلطات آنذاك دفن العلامة العراقي الشهير في الصحن الكاظمي نُفّذت وصيته بالدفن قرب جامع براثا وكان ذلك بأمر من العلامة حسين علي محفوظ وهو أحد أقارب الوردي وأحد أبرز علماء الدين في العراق. 

يروي قريب الوردي أن مجموعة من المثقفين العراقيين التقوا في ذلك اليوم وذهبوا إلى جامع براثا وطالبوا بدفنه هناك، وقد استجاب المسؤولون عن الجامع لطلبهم، ودفن الوردي في عام 1995.

يعود تاريخ جامع براثا إلى عام 654 م ويقع في منطقة تاريخية غنية بالآثار ويعتقد أنه كان في الأصل ديراً نصرانياً كما يعتقد أيضاً أن النبي إبراهيم الخليل قد زار المكان وأن النبي دانيال ذو الكفل قد دفن فيه، وقد جدد البناء آخر مرة عام 1970.

ويعزو أبو علي الصغير  سبب اختيار الوردي لجامع براثا أن العالم العراقي كان يتردد على الجامع القرب من منطقة سكناه طوال سنوات طفولته.

ويضيف “كان يحب الجامع الذي يعد من أهم المراكز العلمية والدينية سابقاً وقد ذكر في كتاب لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث أنه كان يذهب إليه كل يوم جمعة ويجلس في أحد الأركان ويستمع إلى الخطبة ويقرأ الكتب”.

ويتابع “كان الوردي يرغب بأن يكون قبره قريباً من منزله ليتمكن أقاربه وأصدقائه من زيارته كما كان يرغب في أن يدفن في مكان يرمز للعلم والدين حتى يكون قبره شاهداً على حبه للعلم والإيمان”. ويتذكر أبو علي أن حشداً كبيراً شارك في تشييع جنازة الوردي من مختلف فئات المجتمع العراقي وقد أقيم له حفل تأبين في الجامع نفسه. 

وكان قبر الوردي محاطاً بحواجز من الخرسانة في زمن الاحتلال الأمريكي ومهملاً ومتجاوزاً  على طريق المشاة مما أثار استياء العديد من المثقفين العراقيين ومحبي هذا الرجل.

يقول محمد الجبوري، 25 سنة، الذي يسكن بالقرب من جامع براثا إن أمانة بغداد قامت برفع هذه الحواجز الخرسانية واعادت بناء قبر علي الوردي من جديد.

ويكمل”على رغم من قلة الاهتمام بقبر علي الوردي  إلا أن حاله أفضل بكثير مما كان عليه في السابق”.

اليوم يزور قبر علي الوردي العديد من الفنانين والطلاب من وقت لآخر كما أن مكان القبر يلفت نظر عشرات المارة غير المطلعين على نتاج الوردي، يتساءلون من هو هذا الرجل ويفتحون هواتفهم النقالة باحثين عن اسمه في محرك البحث بدافع الفضول.

وألف علي الوردي العديد من الكتب والدراسات منها “وعاظ السلاطين” و”خوارق اللاشعور” و”المجتمع العراقي بين التخلف والتنمية” وتميز بقدرته على تحليل الواقع الاجتماعي العراقي بموضوعية وجرأة، وبمناهج بحث حديثة.

كما أن للوردي مواقفه السياسية المتميزة، وقد تم اعتقاله واحتجز في سجن الرشيد لمدة أربعة أشهر وتعرض للتعذيب من السلطات فكتب عن هذه التجربة في كتابه “خوارق اللاشعور” سنة 1951، وخلال حكم الرئيس السابق صدام حسين، تعرض الوردي لمضايقات شديدة ومنع من السفر حتى إصابته بالمرض.

ورغم كل تلك التضييقات الامنية والسياسية عليه خلال حياته والإهمال الذي تعرض له قبر علي الوردي فيما بعد، إلا أن إطلالة القبر على الشارع الحيوي بالقرب من هذا المعلم الديني والأثري، يؤكدان على أن ما راهن عليه عالم الاجتماع العراقي طوال حياته لم يكن رهاناً خاسراً. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى