كيف تحوّل شط الكوفة إلى مركز للأمراض

لم يتجاوز عمرها الأربعين عاماً بعد، لكن التجاعيد ترتسم على وجه سليمة -أم محمد- كالتشققات التي غزت أرضها إثر الجفاف، بعد انخفاض مياه شط الكوفة التي تغذي الأراضي المحيطة به.

وفاقم وضع شط الكوفة التلوث بسبب صب المياه الثقيلة فيه لسنين طويلة، فقبل خمسة عشر عاماً، لم يكن حال أم محمد كما هو عليه الآن، إذ كانت تعيش بين أرضها المخضرة، ومواشيها متعافية ولا تشكو من قلة المياه.

لكن الأمور تغيّرت كثيراً، “مياه الشط التي تلوثت بسبب صب المياه الثقيلة أضرت بماشيتي التي أصيبت بأمراض اضطرتني إلى بيع بعضها، وذبح البعض الآخر، خوفاً من هلاكها؛ لتكون خسارتي المادية كبيرة”، تقول أم محمد.

تربّى أولاد سليمة الثلاثة وابنتاها على خضار الأرض، وصفاء مياه شط الكوفة، قبل أن تقرر دائرة مجاري النجف تحويل صب المياه الثقيلة إلى الشط.

يوثق هذا التحقيق الأضرارَ التي لحقت بمن يعيشون على ضفاف الكوفة جرّاء تلوّثه بمياه الصرف الصحي.

صورة قاتمة

تبلغ مساحة الأراضي الزراعية في النجف التي تروى من مياه شط الكوفة أكثر من 116 ألف دونم، متوزعة بين 1600 دونم في قضاء الكوفة، و6600 دونم في قضاء المناذرة، و23000 دونم في ناحية الحيرة، و36500 دونم في قضاء المشخاب، و48500 دونم في ناحية القادسية.

وترسم توقّعات “مؤشر الإجهاد المائي” صورة قاتمة للوضع المائي في العراق، إذ تهدد بتلاشي نهريه بحلول عام 2040.

يقف عبد الله الحسني أمام أرضه الجافة، وتتولّد لديه مشاعر الخوف؛ فذكرياته الجميلة مع هذه الأرض تبدّدت، وحل مكانها واقع مرير، بعد أن فقدت الأرض مساحات كبيرة، ولم تعد قادرة على الإنتاج، نتيجة للجفاف الذي حل بمياه شط الكوفة الذي يغذيها.

ولا يتقصر الأمر على انخفاض منسوب المياه، فقد اختلط ما تبقى من مياه الشط بالمياه الثقيلة المنصرفة فيها، ما حال دون ري أرضه بشكل كامل.

يتساءل عبد الله بألم “كيف لي أن أعيش أنا وأطفالي الخمسة؟ أأهاجر وأترك عملي الذي لا أتقن غيره؟”.

المستقبل بالنسبة للمزارع مجهول، وهو متخوف من فقدان ما تبقى من مساحة الأرض المزروعة، وقد يصبح بلا أرض أو عمل.

التلوّث يتضاعف

عام 2008، بدأ صفاء المظفر، وهو خبير بيئي، مشوار بحثه في شأن تلوث شط الكوفة. وتظهر نتائج الدراسات التي أنجزها ما بين 2008 و2023، أن تلوث مياه الشط ارتفع عشرة أضعاف عما كان عليه، خلال هذه الفترة.

كما كشفت الدراسة عن وجود أكثر من 45 موقعاً للصرف الصحي يصب مباشرة في الجداول والأنهار في محافظة النجف.

لم يكن المظفر يتوقع أنه سيكون واحداً من ضحايا تلوث شط الكوفة، إذ أثناء الفحوصات التي يجريها في إطار بحثه، أصيب ببكتيريا “السيدوموناس” (الزائفة الزنجارية) التي سببت له تقرحات جلدية عميقة، استمر علاجها أكثر من شهرين، وما زالت آثارها موجودة على جسمه.

وبحسب الدراسات البحثية، تشيع في مياه الشط المختلطة بالصرف الصحي أكثر من 15 نوعاً من البكتيريا والفطريات والجراثيم؛ منها بكتيريا السيدوموناس وستافيلوكوكاس وكليبسيلا  واشريشيا كولاي، ناهيك عن الكوليرا والبلهارسيا.

ويؤكد المظفر أن هذه الأنواع من البكتيريا تسبب مشكلات صحية خطيرة على الإنسان، خاصة وأن أعداد مستعمراتها تتجاوز بعشرة أضعاف المعايير المحددة عالمياً، لا سيما وأن مناسيب المياه تشهد انخفاضاً، ما يفاقم من حجم انتشار هذه البكتيريا في مياه شط الكوفة.

الأمر نفسه ينطبق على المعادن الثقيلة التي تجاوز بعضها خمسة عشر أضعاف المعايير المحددة؛ فبحسب دراسات أجراها قسم الجغرافيا بكلية الآداب في جامعة الكوفة، فإن تركيزات المعادن المرتفعة من رصاص وزنك وكادميوم وحديد ونحاس وفوسفات، تضر بصحة الإنسان والحيوان، وتؤثر في جودة النبات الذي يُروى بهذه المياه.

ويحذر المظفر من تناول بعض أنواع أسماك الشط، وبالتحديد أسماك الشانك والجري والحبري، لأنها تمتص المواد المشعة مباشرة من المياه، وبالتالي فإنها تنتقل إلى جسم من يتغذى عليها.

ورغم هذا، ينتشر السمك في الأسواق بكميات كبيرة، فبحسب إحصائيات دائرة زراعة النجف، فإن المحافظة طرحت في سوق السمك الكبير -العلوة- 161 طناً من أسماك الشانك منذ كانون الثاني وحتى مطلع تشرين الأول 2023.

متنفس للشباب في فصل الصيف

تنعكس ما أظهرته الدراسة السابقة من تبعات صحية ناتجة عن تلوث مياه الشط، على حياة من يعيشون على ضفافه.

اعتاد محمد الشمري ذو 23 عاماً أن يمارس رياضة السباحة في شط الكوفة، ولكن مع الوقت ظهرت على جسمه بقعٌ حمراء تجعله كثير الحكة.

عندما راجع محمد الطبيب، منعه من السباحة في مياه شط الكوفة، “كل فترة أعاني من الحساسية ذاتها، لأني أحب السباحة ولم أتوقف عن ممارستها، واكتفي بمداواتها بالوصفة الأولى التي كتبها الطبيب”.

شط الكوفة يعد المتنفس الوحيد للشباب في فصل الصيف؛ لأنهم غير قادرين على الذهاب بشكل مستمر الى المسابح المغلقة.

يعلق محمد حول الروائح الكريهة لتي تنبعث من مجرى المياه الثقيلة، “عندما أريد السباحة مع أصدقائي تضايقنا الرائحة المنبعثة من الماء خاصة عندما نقترب من مجرى مياه الصرف الصحي”.

السباحة والصيد في مياه شط الكوفة – تصوير الكاتبة.

أمراض معوية بسبب مياه الشرب

مهدي صالح ضحية أخرى من ضحايا تلوث مياه شط الكوفة، فقد أصيب هو وأطفاله الثلاثة بالإسهال والتلبك المعوي، جراء شرب مياه شط الكوفة من الصنبور.

نصح طبيب الأمراض الباطنية، صالح، بأن لا يستخدم مياه الصنبور، ويعتمد على المياه المعبأة، لكن ضعف القدرة المادية تمنعه من شراء المياه المعبأة التي يلجأ المقتدرون من أهالي النجف إلى شرائها يومياً؛ لتفادي إمدادات المياه الواصلة لهم من شط الكوفة.

 “أنا عامل نظافة في بلدية النجف وراتبي لا يتجاوز 150 ألفا، كيف أستطيع مع صعوبة متطلبات الحياة أن اشتري مياهاً معدنية يوميا؟”.

ويشير مهدي إلى أن “مياه الحنفية عندما نتركها في إناء زجاجي لمدة من الزمن نلاحظ وجود ترسبات طينية، بالإضافة إلى انبعاث رائحة غير محبذة منها”.

تصريف المجاري في مياه شط الكوفة – تصوير الكاتبة.

مخالفات بيئية حكومية

نشبت أزمة قانونية بين دائرة بيئة النجف ودائرة مجاري المحافظة؛ كون الأخيرة خالفت شروط السلامة البيئية، وعمدت إلى صب المياه الثقيلة في شط الكوفة.

في محضر الدعوى القضائية التي رفعتها بيئة النجف في المحاكم المختصة، على لسان عادل محمد محسن، مدير بيئة النجف، أنه “منذ عشرين عاماً بدأ تلوث شط الكوفة، بسبب تصريف مياه المجاري إلى الشط بشكل مباشر ومن دون معالجة”.

وفق محسن، هناك نقطتان كبيرتان لتصريف المياه الثقيلة، وهما الأكثر خطورة؛ الأولى تصريف مبزل البو حداري، والنقطة الأخرى تصريف مضخة البو شخير، فضلًا عن ثلاث محطات معالجة؛ منها محطة معالجة البايوشفت التي تصرف مياهاً ثقيلة بواقع 50 ألف متر مكعب في اليوم، ومضخة البراكية القديمة التي تصرف 34 ألف متر مكعب في اليوم، ومضخة الكونباكت التي تصرف 5 آلاف متر مكعب من المياه الثقيلة في اليوم.

عام 2017، أغلقت دائرة البيئة تصريف مبزل البو حداري، لكن هذا القرار تمت مخالفته، وعاد تصريف مياه المجاري إلى الشط، ليتم رفع دعوى قضائية ضد دائرة المجاري، وفرض غرامات مالية.

تنص المادة 14 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 على منع تصريف أية مخلفات سائلة منزلية أو صناعية أو خدمية أو زراعية إلى الموارد المائية الداخلية السطحية والجوفية، أو المجالات البحرية العراقية إلا بعد إجراء المعالجات اللازمة عليها، بما يضمن مطابقتها للمواصفات المحددة في التشريعات البيئية الوطنية والاتفاقات الدولية.

ولا يقتصر تلوث شط الكوفة على نقاط التصريف الكبيرة للمياه الثقيلة، فوفق مدير دائرة البيئة في النجف، فإنه لا يمكن السيطرة على الصرف المنزلي الذي يصب في مياه الشط، كذلك تتكاثر العشوائيات -خاصة في منطقة السهيلة- على ضفاف الشط، مفضية إلى تصريف مياه الصرف الصحي مباشرة في شط الكوفة.

ويشير محسن إلى أن كل هذه التجاوزات تتحملها دائرة مجاري النجف، ومديرية البلدية.

وتسجل مختبرات دائرة بيئة النجف ارتفاعاً في نسبة الملوحة في شط الكوفة، بسبب تصريف المياه الثقيلة فيه.

ونصت المادة السابعة من نظام صيانة الأنهار والمياه العمومية من التلوث رقم 25 لسنة 1967 على منع تصريف المياه الثقيلة في المياه العمومية.

ويشير تقرير صادر عن لجنة شكلتها دائرة بيئة النجف عن مبزل البو حداري، بناء على أمر قضائي، إلى تكاثر أنواع مختلفة من البكتيريا في الشط، من شأنها أن تسبب أمراضاً جلدية ومعوية.

وأعرب محسن عن تخوفه من أن استمرار صب المياه الثقيلة في شط الكوفة سيؤدي إلى كوارث بيئية، يفاقم من تأثيرها انخفاض مناسيب المياه جراء الجفاف.

مياه آسنة في شط الكوفة – تصوير الكاتبة.

اتهام الإدارة المدنية بالتقصير

لم يختلف تحرك دائرة الموارد المائية في النجف عن نظريتها -دائرة البيئة- إزاء صب المياه الثقيلة في شط الكوفة، فقد تقدمت دائرة الموارد المائية بشكوى قضائية ضد رئيس الإدارة المدنية في النجف؛ لمخالفة رمي المياه الثقيلة في نهر الفرات.

يؤكد شاكر فايز كاظم، مدير الموارد المائية في النجف، أن “صب مياه الصرف الصحي يؤثر في نوعية المياه التي تصل إلى المواطنين، ويمكن أن يتجاوز التلوث الحدود المقبولة، لا سيما وأن شحة المياه وانخفاض مناسيبها بسبب التغيرات البيئية يزيد من نسبة التلوث”.

ورأى كاظم أن التأثير الأكبر لهذا التلوث يكون على الإنسان، مقارنة بالحيوان والنبات.

بدورها، برّرت دائرة مجاري النجف على لسان نزار عبد عباس، معاون مدير الدائرة، صب المياه الثقيلة بالشط لـ”قلة التخصيصات المالية مع زيادة التوسع السكاني يزيد من تدفق المياه الثقيلة إلى الشبكة، وبذلك لا بد من منفذ تذهب إليه هذه المياه وإلا غرقت مدينة النجف بالمياه الثقيلة؛ فلم يكن أمام دائرة المجاري إلا أن تحول مجرى مياه الصرف الصحي إلى شط الكوفة”.

وفي الوقت الذي تنتظر مدينة الكوفة إنشاء خطوط ناقلة منذ عام 2008، تفاجأ الأهالي بوقف العمل على تنفيذ المشروعات، الأكثر من هذا، أنه في الأثناء جرفت العديد من الأراضي الزراعية، لبناء مناطق سكنية، ما يزيد من معدلات صرف المياه الثقيلة في شط الكوفة.

وبحسب عباس، فإن مشروع إنشاء خطوط ناقلة لم يصطدم فقط بقلة التخصيصات المالية، بل نظراً لأن التنفيذ “يجب أن يمر عبر سلسلة معقدة من الضوابط الادارية لدائرة بيئة النجف، وذلك لاعتمادها على تشريعات قديمة تعرقل أحيانا عملنا”.

“دائمًا ما تكون الشروط المفروضة لمد خط ناقل معرقلة لإنشائه”.

وتبلغ معدلات مياه الصرف الصحي نحو 250 ألف متر مكعب، تتم معالجة 85 ألف متر مكعب فقط منها، وتذهب البقية إلى مياه الشط.

مجريان في نهر واحد

رغم الضغوط التي مارستها الإدارة المحلية في الكوفة بالتعاون مع أعضاء مجلس النواب عن النجف، لتحويل المياه الثقيلة إلى وحدة المعالجة في بحر النجف، بدلاً من صبها في الشط، إلا أن المشروع لم يرَ النور بعد، وفق ما أكده حمزة العلياوي قائممقام الكوفة.

يحذر العلياوي من انتشار الأمراض الجلدية، والمعوية المعدية، والأمراض السرطانية على المدى البعيد، نتيجة لإمداد سكان الكوفة بالمياه الملوثة، خاصة من يسكنون بالقرب من حافة مياه الشط.

والخطير في الأمر أن صب المياه الثقيلة يبتعد عن مشروع ماء النجف الذي يزود المدينة بمياه الشرب بمسافة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد.

وقد أنشئ خط ناقل من أجل نقل المياه الجوفية، لكن استخدمته دائرة مجاري النجف لنقل المياه الثقيلة إلى شط الكوفة.

مجريان مائيان يصبان في شط الكوفة؛ مياه الفرات والمياه الثقيلة التي تبعد بضعة أمتار فقط عن مشروع ماء الكوفة الذي يغذي أكثر من ربع مليون إنسان بالمياه العذبة، حاملة معها الكثير من المخاطر الصحية والبيئية، في وقت ما زال السكان ينتظرون مشروع معالجة المياه الثقيلة الذي تأخر لأكثر من خمسة عشر عاماً.

* تم إنتاج هذا التقرير ضمن إطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز، وينشر بالتنسيق مع “نيريج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى