مهنة الندافة: إرثٌ عريق يواجه تحديات العصر
فاطمة كريم – بغداد
في أحد أزقة بغداد القديمة، يقف محل “أبو علي” للندافة منذ أكثر من 25 عاماً شاهداً على إرثٍ عريق يواجه تحديات العصر، حاملاً أسرار حرفة تقليدية تكاد تنقرض مع مرور الزمن.
خالد محمد، الملقب بأبو علي، وهو في 35 من عمره، ورث عن والده وجده مهنة الندافة. يقطن هذا الرجل في منطقة سبع البور التي تقع في أطراف بغداد من جانب الكرخ.
يتحدث قائلاً: “منذ السابعة من عمري وأنا أعمل في محل جدي ووالدي الذي كان سابقاً يقع في منطقة الإسكان ببغداد، وبعد وفاة جدي ووالدي أكملت أنا عنهما ما تركا وتعلمته منهما، وإلى الآن أزاول هذه المهنة وأعلمها لولدي علي كي لا تندثر.”
حكاياتٌ وأحاديثٌ تملأ المكان بينما يعمل أبو علي، تتناغم مع صوت آلاته القديمة لتُشكّل سمفونيةً تُخلّد تراثاً عريقاً، محوّلاً بيديه الماهرتين كتل القطن البيضاء إلى تحفٍ من الدفء والراحة، فتدخل منتجاته بيوت العراقيين من لحف ووسائد ودشاك.
لا تحتاج هذه المهنة إلى الكثير من الأدوات المعقدة، إنما يصنع أبو علي منتجاته من أدوات بسيطة جداً وعلى رأسها ماكينة الندافة، وهي عبارة عن جهاز يوضع بداخله القطن لفرزه ثم استخراجه.
يقول أبو علي: “لدي قصة كبيرة مع هذه الماكينة، فخسرت أحد أصابع يدي بسببها عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري أثناء العمل. عن طريق الخطأ بُتر إصبعي الخنصر وفقدته، لكن لم تؤثر هذه الحادثة على حبي للمهنة، لكن أخشى على ولدي منها.”
تمر صناعة الأفرشة أو ندفها بعدة مراحل، فيحضر أبو علي القطن أولاً ثم يزنه ليقرر ماذا سوف يعمل به. يدخله في ماكينة الندف ومن بعدها يحول أكوام القطن هذه إلى أفرشة ذات جودة عالية تدوم فترات طويلة.
بعد فرش القطن داخل الأقمشة يقوم أبو علي بخياطتها. يقول “من الأشياء التي ورثتها عن جدي وأبي هي (الكشته)، وهذه التسمية تركية الأصل، وهي عبارة عن قطعة صغيرة من شحم الأغنام نضع عليها الملح ومن ثم نخيطها بواسطة قطعة صغيرة من القماش ويوضع عليها حلق مصنوع من الحديد وظيفته الأساسية دفع الإبرة أثناء الخياطة”، موضحاً ان الكشتة وظيفتها بامتصاص العرق من باطن اليد أثناء العمل كما تشكل وسيلة ضغط قوية على رأس الإبرة.
لم تكن مهنة الندافة في السابق ترفاً، بل ضرورةً أساسيةً في كل بيتٍ عراقي. فقبل رواج المفروشات المستوردة التي غزت الأسواق اليوم بسبب رخص سعرها أصبح الإقبال عليها واسعاً جداً.
كان القطن هو المادة الأساسية لصنع المفروشات المنزلية واعتمدت العائلات على حرفة الندافين لتوفير الدفء والأمان في بيوتها. يقول أبو علي: “تراجع زراعة القطن في العراق أثر سلباً على هذه الحرفة أيضاً بسبب موجات الجفاف الشديدة التي شهدتها البلاد، فاتجه معظم الندافين إلى استيراده من مصر او إيران أو دول أخرى”.
اليوم مع ازدياد انتشار المفروشات الجاهزة المصنوعة من موادٍ اصطناعية رخيصة، بدأت مهنة الندافة تفقد بريقها، مما أدى إلى تراجع الطلب على المنتجات، لكن يحاول اليوم معظم الندافين ومن ضمنهم أبو علي مواكبة تصاميم المفروشات الحديثة وعرض أكثر من سلعة جانبية داخل محله مثل الأقمشة.
علي خالد، الابن الأكبر لخالد محمد وهو في الرابعة عشرة من عمره، يزاول مهنة الندافة في محل والده منذ صغره. تربى علي داخل المحل وتعرف على هذه المهنة إلى أن أتقنها.
يقول علي: “حتى في أوقات الدراسة آتي إلى هنا بعد الرجوع من المدرسة وأكمل واجباتي هنا داخل المحل. أنا أحافظ على ما تعلمه والدي من أجدادي وسوف أطور من هذه المهنة في المستقبل وأحافظ عليها من الاندثار.”
رغم صغر سنه يصف أبو علي ولده بـ “الأستاذ” في المهنة ويثني على تعامله الفريد مع زبائنه وخصوصاً النساء منهن مما جعله يكتسب الكثير من الزبائن.
أم تحسين، سيدة في الخامسة والأربعين من عمرها، إحدى زبائن علي، طلبت منه منذ فترة وجيزة أن يصنع لها وسائد، تقول: “علي شاب ماهر ويتقن عمله. نحن النساء لا نقتنع بسهولة لكن علي مميز ومثابر. أنا أعرفه منذ عدة سنوات وأراه كيف يعمل ويدرس وينجح في الاثنين”.
يُدرك أبو علي خطورة الوضع الذي تعاني منه الحرف اليدوية، لكنه يُصرّ على الحفاظ على إرثه العائلي. يُعلّم ابنه أسرار المهنة مُؤمناً بأهمية نقل هذا التراث للأجيال القادمة.
يُؤكّد أبو علي على جودة منتجاته المصنوعة من موادٍ طبيعيةٍ تدوم لسنواتٍ طويلة، على عكس المفروشات المستوردة التي سرعان ما تتلف ويُشدّد أيضاً على القيمة العاطفية لامتلاك منتجاتٍ مصنوعة يدوياً بحرفيةٍ عالية.
في عمله يواجه أبو علي تحديات جمّة، منها “ارتفاع أسعار المواد الأولية، وقلة الطلب، والمنافسة من المفروشات المستوردة”. كلها عوامل تُهدّد استمرار مهنته، لكنه يبقى مُتفاءلاً، يُشارك في المعارض والحرف اليدوية، ويُروّج لمنتجاته عبر الإنترنت، سعياً منه لجذب المزيد من الزبائن.
بالنسبة لهذا الرجل، مهنة الندافة ليست مجرد مهنةٍ تقليديةٍ فحسب، بل هي رمزٌ من رموز الهوية والثقافة العراقية “تُجسّد هذه المهنة إبداع الإنسان العراقي وصبره وحرفيته” خاتماً حديثه معنا بالقول إن “دعم هذه المهنة والحفاظ عليها هو واجبٌ على الجميع، فهي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ العراق وحضارته”.