الجزر العشوائي ينتشر في بغداد وسط قلقٍ من الحمى النزفية
بغداد- سارة القاهر
في مشهدٍ يعكس حجم الإهمال الحكومي، تعيش عشرات العائلات في بغداد كابوساً يومياً بسبب انتشار ظاهرة الجزر العشوائي، حيث تعم الروائح الكريهة عدد من الأحياء والشوارع وتغزو الحشرات كل زاوية فيها.
هذا الواقع يُلخصه حسن علي، رجل في منتصف العمر، يقف حائراً أمام بيته المتصدع، متأثراً بالروائح المنبعثة من الجزارين الذين يمارسون عملهم بشكل عشوائي بالقرب من منزله. يقول حسن: “أصبحت لا أستطيع التنفس في منزلي، واضطررت لشراء كمامات طبية للخروج إلى الشارع، وأفكر جدياً في بيع منزلي والهجرة إلى مكان آخر”.
أما كريم جبر، فيعيش معاناة أخرى، حيث أصيب هو وعائلته بأمراض جلدية بسبب انتشار الحشرات الناتجة عن مخلفات الجزر العشوائي. يوضح كريم: “شعرت باليأس والإحباط، لقد فقدت صحتي وصحة عائلتي بسبب إهمال المسؤولين. لا أحد يهتم بنا أو بمشاكلنا”.
هذه الظاهرة تُعاني منها المناطق الواقعة على طول طريق البياع، بغداد الجديدة، الكمالية، الراشدية، والشعب، إضافةً إلى انتشارها في مناطق أخرى من بغداد، رغم شكاوى الأهالي المستمرة إلى الدوائر الصحية والبلدية، والتي يبدو أن المسؤولين لا يولونها اهتماماً يُذكر.
ماجد الكعبي، مدير قسم الإشراف الصحي على المجازر في دائرة البيطرة التابعة لوزارة الزراعة، يوضح أن ظاهرة الجزر العشوائي أصبحت مستشرية، ويعود أحد أسبابها إلى قلة عدد المجازر الحديثة والمجهزة بمواصفات عصرية.
يشير الكعبي إلى أن آخر مجزرة أنشئت كانت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وأن عدد المجازر الموجودة حالياً لا يتناسب مع الكثافة السكانية. ويضيف: “متابعة هذه الظاهرة هي من مسؤولية أمانة بغداد ودوائرها البلدية، في حين يقتصر دور البيطرة على الإشراف الصحي”.
يشير الكعبي إلى أن البلاد تضم حوالي 52 مجزرة للمواشي، وهو عدد غير كافٍ بالنظر إلى الكثافة السكانية. ويوضح أن مسؤولية مكافحة ظاهرة الذبح خارج المجازر الرسمية وإنشاء مجازر حديثة تقع على عاتق أمانة بغداد ودوائرها البلدية. أما دور دائرة البيطرة فيقتصر على الإشراف الصحي.
ووفقاً لقانون البلديات العام رقم 165 لسنة 1964 المعدل، فإن المادة 46 تنص على إنشاء المجازر ومنع الذبح خارجها، مما يجعل الدوائر البلدية الجهة المسؤولة رسمياً عن هذا النشاط.
حسن علي، الذي أعرب عن معاناته الكبيرة بسبب عمليات الذبح العشوائي، تقدّم بعدة شكاوى إلى أمانة بغداد وبلدية الرشيد المسؤولة عن الخدمات البلدية في منطقته. إلا أن هذه الشكاوى لم تجدِ نفعاً، حيث تزور فرق البلدية المنطقة بعد عدة مراجعات وتوجه بمنع عمليات الذبح، “لكن هذا الإجراء لا يستمر سوى يوم أو يومين فقط، ليعود بعدها الجزارون إلى ممارسة نشاطهم دون خوف. فالإجراءات الحكومية تقتصر على أخذ تعهد منهم بعدم مزاولة الذبح العشوائي، ولا تتجاوز ذلك”.
عمليات الجزر العشوائي أسهمت بحسب مختصين في انتشار مرض الحمى النزفية الذي أودى بحياة عشرات المواطنين سنويًا.
الدكتور ثائر الأسدي، مدير قسم الوبائيات في دائرة البيطرة، يوضح في تصريح لـ”المنصة” أن “مرض الحمى النزفية يعد من الأمراض الانتقالية التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر، سواء بشكل مباشر أو عبر التماس مع سوائل الحيوانات مثل الحليب والدم، وكلها تعد وسائل انتقال للمرض إلى البشر”. ويضيف: “يمكن أن ينتقل المرض من إنسان إلى آخر عبر دم المصاب”.
يشير الأسدي إلى أن مرض الحمى النزفية مستوطن في العراق، حيث سجلت أولى الإصابات به في عام 1979، وتتراوح بين 5 إلى 10 إصابات سنويًا بين البشر. إلا أن الإصابات شهدت ارتفاعًا كبيرًا خلال السنوات التي تلت وباء كورونا، حيث بلغت عام 2022 نحو 380 إصابة، و587 إصابة في عام 2023.
الإجراءات التي تتخذها الدوائر البيطرية للحد من انتشار المرض تشمل رش المناطق المصابة والمناطق المحيطة بها بالمبيدات لمسافة تصل إلى 15 كيلومتراً، ومن ثم العودة لرشها مرة أخرى بعد 14 يومًا، بالإضافة إلى منع انتقال المواشي إلى مناطق أخرى وتغطيسها في المياه التي تحتوي على مبيد لحشرة القراد للقضاء عليها.
من جانبه، صرح مدير عام دائرة البيطرة في وزارة الزراعة، ثامر الخفاجي، بأن الوزارة رفعت كتباً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء تطالب بإنشاء مجازر نموذجية، مشيراً إلى أن المجازر الموجودة حالياً قليلة ومتهالكة، وأن إنشاء المجازر ليس من صلاحيات وزارة الزراعة، بل من صلاحيات وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة.
وأضاف الخفاجي أن هناك لجان تنسيق مشتركة بين دائرة البيطرة ودائرة الصحة العامة والأمن الوطني والداخلية والبيئة لمراقبة عمليات الجزر العشوائي.
الطبيب البيطري باسل كامل، أوضح لـ”المنصة” أن عمليات الجزر العشوائي تعد أحد الأسباب الرئيسية للتلوث البيئي وزيادة حالات الإصابة بمرض الحمى النزفية، حيث يتم التخلص من مخلفات الذبائح غير الصالحة للاستخدام البشري بإلقائها في مياه الأنهار، ما يؤدي إلى تلوثها، فضلاً عن تلوث التربة.
الناشط البيئي ناجي رحيم الركابي يرى أن وزارة البيئة والجهات المعنية قد فشلت في إيقاف هذه الظاهرة، مشيراً إلى أن عدم إنشاء مجازر رسمية في السنوات الماضية، إلى جانب غياب القوانين الرادعة، أدى إلى تفشي الأمراض.
أمانة العاصمة بغداد، المعنية بالمجال الخدمي وتوفير المجازر النظامية، اعترفت بعجزها في مواجهة ظاهرة الجزر العشوائي.
مدير العلاقات والإعلام في الأمانة، محمد الربيعي، قال في تصريح صحفي: “لم نتمكن من معالجة هذه الظاهرة حتى الآن في مركز العاصمة بغداد”، مشيراً إلى “رفع بعض مواقع الذبح العشوائي بالتعاون مع دائرة البيطرة، من خلال حملات متابعة تتم بفترات زمنية متباعدة”.
وأضاف الربيعي أن حملات منظمة ومجدولة سيتم تنفيذها لمراقبة هذه الظاهرة بالتعاون مع دائرة البيطرة وقيادة عمليات بغداد.
بهذا الصدد، يخشى حسن علي وغيره من الأهالي أن تظل تظل معاناتهم مستمرة في ظل انتشار هذه الظاهرة، إذ لا يبدو أن الحلول الجذرية لمواجهتها قريبة على حد قوله.