استجوابات وخلافات وفضائح: مسار جديد للأزمات السياسية في ذي قار
منتظر الخرسان
رغم هيمنة قوى الإطار التنسيقي على حكومة ذي قار المحلية، إلا أن هذه القوى تجد نفسها محاصرة في بيوتات وأماكن غير معلنة، بعيداً عن الأضواء، خوفاً من مهاجمة المتظاهرين لمقراتهم.
هذه الظاهرة تعكس تأثير حراك تشرين 2019 على المشهد السياسي في ذي قار رغم مرور خمس سنوات على اندلاعه، فالمحافظة الجنوبية كانت واحدة من أبرز مراكز التظاهر في البلاد آنذاك وشهدت حرق وتخريب مقار الأحزاب من قبل المتظاهرين المطالبين بمحاربة الفساد وإنهاء المحاصصة الطائفية بين أحزاب السلطة.
وتشكّل الإطار التنسيقي، وهو ائتلاف سياسي شيعي، في تشرين الأول 2021 بعد الانتخابات البرلمانية التي حققت فيها الأحزاب التشرينية المنبثقة عن الحراك 40 مقعداً. أما الأحزاب التقليدية الشيعية المشكلة للإطار فقد منيت بخسائر غير متوقعة، إذ حصلت على 40 مقعداً فقط، بينما نال التيار الصدري 72 مقعداً.
أثارت هذه النتائج مخاوف قيادات الإطار وأبرزهم نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وحيدر العبادي وعمار الحكيم من فقدان حصتها في الحكم، في ظل رفض التيار الصدري التحالف معها لتشكيل حكومة. لكن الإطار نجح لاحقاً في ضم أفراد وقوى سياسية من القوى التي تحالفت مع التيار الصدري وبعضهم محسوب على الحراك، ليكوّنوا الثلث المعطل لتشكيل الحكومة. وفي خضم هذه الصراعات، أعلن نواب التيار الصدري انسحابهم من العملية السياسية بشكل جماعي، مما أتاح للإطار فرصة السيطرة على الحكم.
ويبدو أن قوى الإطار التنسيقي ما زالت منذ اندلاع الحراك في تشرين الأول 2019 تتخذ خطوات حذرة مدفوعة بخوف عميق من احتمال اندلاع الغضب الشعبي مجدداً، فمقار الأحزاب في ذي قار بقيت إلى اليوم بين محترقة ومهدمة، بينما تم تسليم بعضها إلى الدوائر المستأجرة، في حين يقدم قادة الأحزاب تبريرات لعدم ظهورهم العلني، مؤكدين أن قواعدهم الشعبية ليست بحاجة إلى مكاتب للتواصل معهم.
ويشعر بعض محتجي تشرين اليوم بالخذلان من أن جزءاً من قادتهم قد تم شراء ذممهم من خلال حصولهم على تعويضات مالية أو تعيينات ومناصب، خاصة مع تشظي القوى التشرينية وتحالف عدد منها مع قوى الإطار التنسيقي، وتبرز تساؤلات حول كيفية استعادة الحماس والروح بين الشباب الذين يسعون إلى تغيير سياسي.
مرحلة جديدة
بدأت مرحلة جديدة مع الانتخابات المحلية التي جرت في كانون الأول 2023، إذ شهدت هذه الانتخابات مشاركة كبيرة من قوى الإطار التنسيقي، بينما لوحظ تراجع في مشاركة قوى تشرين مقارنة بما كان عليه في الانتخابات البرلمانية. وأظهرت النتائج هيمنة واضحة للأحزاب التقليدية، التي استحوذت على 61% من مقاعد مجلس المحافظة، بحصولها على 11 مقعدًا من أصل 18.
وتم تشكيل الحكومة الجديدة في شباط 2024، ليحصل ائتلاف “نبني” الذي يتزعمه هادي العامري على منصب رئاسة مجلس المحافظة في البداية، وكان المرشحين عبد الباقي العمري من كتلة “السند” التابعة لوزير العمل أحمد الأسدي وعزة الناشي المرتبط بإحدى فصائل الحشد الشعبي، وكلاهما من ائتلاف “نبني”.
تمكن العمري من انتزاع رئاسة المجلس من منافسه الناشي بالتعاون مع بقية الأحزاب، وتم تقسيم رئاسة اللجان بين الأحزاب المشاركة، أما تيار “الحكمة” الذي يمتلك مقعدين في المجلس، فقد حصل على إدارة المحافظة، فيما حصل “حزب الدعوة” وتنظيم “العصائب” على منصبي نائبي المحافظ.
رغم توزيع المناصب بين قادة الإطار التنسيقي، بدأت الخلافات تظهر بوضوح داخل المجلس. فقد سعت بعض التحالفات إلى تقويض سلطة المحافظ، خاصة بعد اتخاذه قرارات إدارية دون استشارة الأعضاء الآخرين. وفي هذا السياق، استغل رئيس المجلس عبد الباقي العمري الفرصة لتعزيز نفوذه، وقام بتشكيل تحالف جديد باسم “ائتلاف أبناء ذي قار” في أيار 2024، والذي ضم 10 أعضاء ونجح في انتزاع رئاسة لجنة الطاقة من منافسه عزة الناشي، مما زاد من الفجوة بينهما، رغم انتمائهما لنفس الائتلاف “نبني”.
لم تدم التحالفات الجديدة داخل المجلس طويلاً، حيث بدأ بعض الأعضاء بالانسحاب من ائتلاف عبد الباقي العمري وتزامن ذلك مع تقديم عزة الناشي طلب استجواب للعمري، متهماً إياه بتأجيل جلسات المجلس وعدم إبلاغ الأعضاء بجدول الأعمال في الوقت المناسب. وفي 14 آب 2024، عقدت جلسة خاصة لمناقشة هذه الاتهامات، لكن العمري تغيب عن الحضور، مما أتاح للمعارضين فرصة تمرير الاستجواب والتصويت على اختيار عزة الناشي رئيساً جديداً للمجلس.
وصف عبد الباقي العمري التغييرات في رئاسة مجلس المحافظة بأنها “انقلاب سياسي”، محذرا من تداعيات قد تنتقل إلى محافظات أخرى. وفي خطوة تصعيدية، قرر العمري التوجه إلى محكمة القضاء الإداري لتقديم طعن في جلسة التصويت التي أسفرت عن تغيير رئاسة المجلس.
فضائح وتسريبات
يواجه مجلس محافظة ذي قار أزمة خانقة منذ تشكيله، بعدما وجد نفسه بلا مقر رسمي لعقد اجتماعاته وممارسة مهامه. إذ تم حرق مقره المؤقت السابق على يد محتجي تشرين. وبعد انتخابات 2023، اتخذ المجلس من مبنى القائممقامية في قضاء الناصرية مقرا، واستخدم قاعة دائرة المياه للاجتماعات. لكن خلال الشهرين الأخيرين، اضطر المجلس إلى الانتقال إلى قاعة قيادة الشرطة لحمايته من المتظاهرين، الذين أغلقوا مبنى القائممقامية بشكل متكرر، مطالبين بتحسين الخدمات.
في ظل هذه الظروف، أصبح المجلس شبه مشلول وغير قادر على تقديم الخدمات المطلوبة للمواطنين. وصرح عضو المجلس أحمد غني الخفاجي بأنه تقدم بطلب إلى رئيس مجلس النواب العراقي، محسن المندلاوي، لتشكيل لجنة تحقيقية للنظر في أسباب غياب الأعضاء وعدم عقد الاجتماعات الدورية.
لكن الأزمة السياسية في ذي قار لم تتوقف عند هذا، بل تصاعدت مع فضيحة جديدة، حيث تلقت أجهزة الأمن الوطني شكوى من محافظ ذي قار زعم فيها تعرضه للابتزاز من شبكة متورطة في قضايا مشبوهة. بناءً على هذه الشكوى، صدرت أوامر قبض بحق فتاتين وشاب للتحقيق في القضية.
وأثار الجدل أكثر تسريب فيديو يزعم أنه يُظهر المحافظ في مواقف غير أخلاقية، متضمناً حديثاً خادشاً للحياء مع إحدى الفتيات المعتقلات ولقطات فاضحة، مما زاد من تعقيد الأزمة. وفي سياق التحقيقات، صدرت أوامر بالقبض على عضوين في مجلس محافظة ذي قار بتهمة التورط في ملف الابتزاز، الأول هو عمار الركابي، المستقل الذي ترشح ضمن قائمة “تيار الحكمة” وتم القبض عليه، والثاني هو محمد هادي، رئيس كتلة “الماكنة”، الذي لم يُلقَ القبض عليه نظرا لوجوده خارج المحافظة، ولا يزال مكانه مجهولا.
وكشفت تسريبات عن محاولات لتسوية ملف الفيديو الفاضح عبر تقديم استقالات المتورطين وإغلاق القضية بهدوء، في محاولة لاحتواء التداعيات المتفاقمة.
تعكس هذه الأحداث هشاشة الأوضاع السياسية في محافظة ذي قار، حيث أدى التنافس الحزبي إلى انقسامات داخلية وصلت حد التسقيط السياسي.
ويرى باحثون في الشأن السياسي أن التفكك الحالي في المحافظة الجنوبية يعود إلى غياب تحالفات متينة، ودخول بعض الأطراف في التحالفات بهدف تقاسم المناصب، مما أدى إلى تهميش بعض الكتل الأخرى. كما يُعزى هذا التوتر السياسي إلى غياب اتفاقات استراتيجية بين قوى الإطار التنسيقي في بغداد، وهو ما انعكس سلبا على الوضع في ذي قار وبقية المحافظات.