متقاعد يعلم الهواة اللغة الأكدية والخط العربي مجاناً
مهدي غريب – بغداد
على طاولة صغيرة لا تتجاوز مساحتها مترين، يجلس أستاذ الخط فاضل حسين وسط طلابه وأوراقه المتناثرة، إذ لم يمنعه تعب التدريس وألم السنين من مواصلة شغفه بتعليم الهواة لغة الأجداد والخط العربي مجاناً.
قبل وصول أي أحد إلى شارع المتنبي، يكون الأستاذ فاضل حسين قد وصل إلى قشلة المتنبي، مكان تعليم طلابه اللغة الأكدية والخط العربي، حاملاً حقيبته الجلدية بيدٍ متجعدة وكراسات تعليمية بيده الأخرى.
يقول حسين وهو يخط كلمة أكدية على ورقة صفراء: “أنا هنا لأعلم الهواة لغة أجدادنا، اللغة التي شهدت حرفنا الأول ونقلت صوتنا إلى محافل العالم. رغم كبر سني والأمراض التي أصابتني، أستمر في إعطاء ما أعرفه لمحبي اللغات وعاشقي الخط العربي”.
ويضيف: “لا أطلب من الهواة سوى الحضور فقط، أما مستلزمات دراسة الخط فسأوفرها لهم مجاناً، بل أكافئ الطلاب المتميزين بهدايا ذات قيمة رمزية ومعنوية”.
على مدار خمسة وثلاثين عاماً، درّس الأستاذ فاضل الخط العربي في الجامعات العراقية، وشغفه في التدريس وحبه لنقل أثمن ما لديه دفعاه لفتح صف صغير في قشلة المتنبي.
بدأت رحلة الأستاذ المتقاعد فاضل في قشلة المتنبي لتعليم الهواة، فور تقاعده من الوظيفة الحكومية عام 2016، وشرع في تقديم محاضرات حول رسم الخط العربي باستخدام القصبة والحبر الأسود. تتضمن دروسه مراحل تبدأ بكتابة الحروف الأبجدية وتنتهي برسم الآيات القرآنية والشعر العربي.
في صفه الصغير، الذي يتكون من طاولة خشبية ورفوف معدنية، خرّج الأستاذ فاضل أكثر من خمسة آلاف هاوٍ يجيدون رسم الخط العربي، ونحو ألفي طالب يستطيعون قراءة النصوص البابلية والمسمارية.
يقول الأستاذ فاضل، وهو يجمع أوراقه من على الطاولة: “خرج من هذا المكان البسيط آلاف الطلبة، وقد أصبح العديد منهم محترفين، وبعضهم استطاع إنشاء مشاريع خاصة به في رسم الحروف والكلمات في لوحات فنية”.
أدى التطور التكنولوجي إلى تراجع مهنة الخطاط، حيث باتت الإعلانات التجارية ولوحات المدارس تُنجز وتُطبع في المكاتب خلال وقت قصير. يقول الأستاذ فاضل: “التكنولوجيا أضعفت هذه المهنة، التي كانت يومًا حيوية في بغداد، وأضحت محال شارع المتنبي تمتلئ بمكاتب الطباعة والإعلانات بدلاً من ورش الخطاطين”.
عمر محمد، أحد طلاب الأستاذ فاضل، شاب عشريني يعمل في مكتب لطباعة الإعلانات في المتنبي، إلا أن حبه للخط العربي دفعه للانضمام إلى فريق الهواة لتعلم الخط واللغة الأكدية.
يقول عمر: “عملي في طباعة الإعلانات نتاج التطور التكنولوجي الذي قتل مهنة الخطاط، لكن ذلك لم يمنعني من تعلم فن الخط العربي”. ويضيف: “بفضل الأستاذ فاضل، استطعت في أقل من شهر أن أرسم لوحات بكلمات عربية”.
يشمل صف الأستاذ فاضل أعماراً مختلفة، بدءاً من الشباب وحتى كبار السن، فالتعلم لم يقتصر على الفئة الشابة فحسب، بل انضم العديد من كبار السن أيضاً. جاسم سلمان، البالغ من العمر 54 عاماً، انضم إلى صف الهواة قبل شهرين. يقول جاسم: “أنا من محبي التاريخ العراقي القديم، وتعلمي للغة الأجداد يمنحني القدرة على قراءة النصوص الأكدية والمسمارية التي كُتبت على الألواح الطينية”.
وتغيب هذه اللغات عن المناهج التعليمية العراقية، حيث يقتصر التعليم على العربية والإنجليزية، دون الاهتمام باللغات القديمة التي تمثل جزءاً أساسياً من تراث العراق العريق، لذا تعد فكرة الأستاذ فاضل بتعليم اللغة الأكدية والمسمارية مجاناً الأولى من نوعها، خاصةً مع عدم وجود مراكز في بغداد لتعليم هذه اللغات.
مع انتهاء اليوم الدراسي الذي يستمر لأربع ساعات كل يوم جمعة، يجري الأستاذ فاضل اختباراً للطلاب ويقدم لهم الملاحظات، وفي حدود الساعة الواحدة ظهراً، يكمل الطلاب مهماتهم ويغادرون الصف بعد انتهاء تعليمهم لهذا الأسبوع.
في النهاية، يحزم الأستاذ المتقاعد حقيبته الجلدية ويتكئ على طاولته الخشبية وهو يقول: “أرضيت ضميري بتعليم الطلاب لغة أجدادنا وحرفنا الأول. سألقاهم الأسبوع المقبل إذا منحني الله الصحة والعافية”.