التعداد السكاني في العراق: أرقام تكشف الواقع وروح الفكاهة ترسم التفاصيل
في صباح يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر بدت شوارع بغداد شبه خالية من الناس والمركبات، بعد أن فرضت السلطات حظر تجوال ليومين متتاليين لإجراء أول تعداد سكاني شامل في العراق منذ 37 عاماً، وهو التعداد العاشر في تاريخ البلاد. ويُعد هذا الحدث بحسب الحكومة العراقية خطوة هامة لفهم التحولات الديموغرافية والاجتماعية في البلاد وتحديد احتياجات السكان المستقبلية بدقة.
عمار مسعد، شاب يبلغ من العمر 20 عاماً يسكن في ناحية النهروان شرق بغداد، وطالب في كلية الرياضة، كان من بين المتطوعين الذين شاركوا في التعداد السكاني.
يتحدث عمار عن تجربته قائلاً: “تم توزيع البيوت في المنطقة علينا، وكان نصيبي 160 بيتاً في ناحية النهروان”. وأضاف “زُودنا بأجهزة آيباد عليها تطبيق خاص يحتوي على استمارات إلكترونية لخصائص كل أسرة، كعدد أفرادها والعمر والجنس والولادات والوفيات بالإضافة إلى بيانات عن السلع المعمرة الموجودة في كل منزل، وكلما كنا ننتهي من تعبئة استمارة، يتم فتح استمارة جديدة”.
ورغم استخدام التكنولوجيا الحديثة، لم تخلُ العملية من التحديات كما يوضح عمار: “كنت خائفاً جداً في أول يوم ومتردداً في طرق أبواب الناس. كنت أخشى عدم تعاونهم أو حدوث مشكلة لا أعرف كيف أتصرف معها. لذلك عملنا كمجموعات لتخفيف التوتر والسيطرة على الموقف”.
وأضاف عمار مبتسماً: “طرقت أول باب ليلاً، فخرج لنا رجل عجوز بتردد وقال بصوت خائف: السلام عليكم. فقلت له: نحن موظفو التعداد السكاني. أجاب ضاحكاً: بابا، لدي 25 نفر في بيتي، تعالوا عدّونا في الصباح!”
وفيما يتعلق بالبيانات المطلوب حصرها، أوضحت وزارة التخطيط أن إدراج بيانات حول السلع الموجودة في المنازل يهدف إلى قياس مستوى الفقر وتحديد الطبقات الاجتماعية لتوجيه الدعم الحكومي للمناطق الأكثر احتياجاً.
مع ذلك، أثار هذا الأمر تخوف بعض المواطنين، كما يقول عمار: “بعض الناس كانوا يرفضون تقديم معلومات دقيقة عن ممتلكاتهم خوفاً من تأثير ذلك على رواتب الرعاية الاجتماعية”.
كرار قاسم، البالغ من العمر 21 عاماً، كان من الموظفين المشاركين في عملية التعداد، وواجه مواقف طريفة ومحرجة. يقول كرار: “طرقت باب أول بيت في عملي، وكان رجلاً في مقتبل العمر. قلت له: هذا البيت زرناه من قبل وكان بإسم سيدة. فجأة انتفض الشاب غاضباً وصاح: متى زوجتي سجلت البيت باسمها؟! ثم دخل المنزل غاضباً وبدأ يصرخ على زوجته. تدخلنا سريعاً، وجاء المشرف ليشرح له أن الأمر يتعلق فقط بأن زوجته قدمت المعلومات فسُجلت باسمها”. ويضيف كرار بثقة: “أغلب البيوت رحبت بنا ودعونا إلى منازلهم لتقديم الشاي والماء، وكانوا متعاونين جداً”.
صفا الدراجي، أحد المشاركين في التعداد، تحدث عن تجربة مختلفة في منطقة العبيدي ببغداد، قائلاً: “طرقنا باب أحد المنازل حوالي الساعة 11 ونصف صباحاً. خرج لنا رجل في الستين من عمره وأصر على أن ندخل لتناول الغداء. رغم رفضنا في البداية، أصر كثيراً فدخلنا منزله. استقبلنا بترحيب كبير وقدم لنا وجبة غداء شاملة، ثم الشاي، وأكملنا التعداد في المنطقة بعد ذلك”.
وعن المنازل المغلقة أو المهجورة أوضح صفا: “يتم وضع علامة “مغلق” عليها ويتم متابعتها لاحقاً عند مراجعة أصحابها للدوائر الحكومية. أما إذا استمر الإغلاق دون تبرير، فيُحال الأمر إلى الجهات الأمنية للتحقق”.
في ظل النزوح الداخلي والتغيرات المناخية التي أدت إلى هجرات كبيرة للسكان، يؤكد صفا أن التعداد السكاني خطوة بالغة الأهمية لفهم طبيعة التحولات في المجتمع العراقي. ومن المتوقع برأيه أن تسهم البيانات التي يتم جمعها في تطوير السياسات العامة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية لا سيما في المناطق التي تأثرت بالنزوح.
ويشير صفا إلى أن “الحكومة بهذا الإجراء لم تُنجز فقط شيئاً معطلاً منذ عقود، بل استحدثت آليات عمل جديدة. لذلك يجب علينا التعاون مع هذه الإجراءات للحصول على نتائج دقيقة وأقرب إلى الواقع”.
وكان آخر تعداد سكاني شامل في العراق قد أجري في العام 1987، بينما أجري تعداد آخر عام 1997 دون أن يشمل محافظات إقليم كردستان التي كانت تتمتع بحكم شبه مستقل في ظل النظام البعثي السابق.
تتحدث فاطمة سلمان، المقيمة في حي الأساتذة ببغداد، عن يوم التعداد قائلة: “سمعت طرقات متزامنة على ثلاثة أبواب. فتحت باب منزلي لأجد مجموعة من الشباب موزعين على منازل شارعنا. سألت شابة نحيفة تقف أمام باب جاري: هل تحتاجين هويتي؟ أجابت: لا، أنتِ لستِ ضمن عينتي. أغلقت الباب وانتظرت حتى جاء أحد العدادين لاحقاً وسجّل معلوماتي”.
وتستذكر فاطمة آخر تعداد سكاني عام 1997 مبتسمة: “كنت صغيرة آنذاك، وأتذكر كيف انتشر العدادون في قريتنا، ودخلوا حتى إلى الزرائب لعدّ الحيوانات بعد إحصاء البشر”.
ومع عودة التعداد السكاني في عام 2024 بعد تأجيلات طويلة بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية، تحول الحدث إلى مادة للنقاش وتبادل المواقف الطريفة على مواقع التواصل الاجتماعي رغم أن التعداد يحمل طابع الجدية والأهمية الوطنية.
فتداول العراقيون منشورات طريفة حول مواقف العدادين والمواطنين، إحداها سخرت من تعداد الأسر بالقول: “لا داعي لدخول المنازل، إذا كانت السيارة أمام المنزل حديثة، فهذا يعني أن عدد أفراد الأسرة اثنان فقط، أما إذا كانت وسيلة النقل ستوتة، فهذا يعني أن عدد سكان المنزل 18 شخصاً” في إشارة إلى كثرة الإنجاب في العائلات ذات الدخل المحدود.
“بعض الناس كانوا يرفضون تقديم معلومات دقيقة عن ممتلكاتهم خوفاً من تأثير ذلك على رواتب الرعاية الاجتماعية”.
لم تتوقف الفكاهة هنا فانتشرت أيضاً مقاطع فيديو تسخر من تحفظ بعض الرجال عن ذكر أسماء أمهاتهم لأسباب اجتماعية، فيما تداول آخرون مقاطع كوميدية حول تهرب بعض السكان من الإجابة على سؤال يتعلق بمحتويات المنزل وهو أحد الأسئلة التي تحتويها استمارة التعداد على أجهزة التاب، حيث يخشى كثيرون من الإفصاح عن عدد السيارات او الاجهزة المنزلية التي يمتلكونها، بل وحتى في القرى يخشى الفلاحون الإفصاح عن عدد بهائمهم خوفا من فرض الضرائب، أو قطع المساعدات المالية الصغيرة التي يحصل عليها الشباب العاطلون عن العمل.
وفي إحدى الحوادث الطريفة، روى موظف تعداد أنه سأل رجلاً عن عدد أفراد عائلته ليفاجأ بأن هوية الأحوال المدنية للعائلة مفقودة. وعندما استفسر عن السبب، أجاب الرجل ضاحكاً: “غير زعلت وراحت لأهلها، الكلبة بت الكلب!”، ما أثار موجة من الضحك بين فريق العمل وهم يحاولون فهم إذا كانت هذه إجابة أم شكوى!
ومنذ الأحد الماضي انتشرت مقاطع اخرى تحذر الرجال المتزوجين من امرأة اخرى دون علم الزوجة الزوجة الأولى، اذ تم كشف بعضهم أثناء تدوين معلومات رب الأسرة بشكل غير مقصود من قبل موظفي التعداد مما تسبب في مشكلات عائلية في عدد من المنازل.
ورغم روح الفكاهة التي رافقت عملية التعداد، يبقى هذا الحدث ذو أهمية كبيرة على المستوى الوطني، حيث يُتوقع أن تكشف نتائجه عن تجاوز عدد سكان العراق 43 مليون نسمة بحلول نهاية عام 2024، مما يُبرز معدلات النمو السكاني المتسارعة في البلاد ويؤكد الحاجة إلى تخطيط دقيق لتلبية احتياجات السكان المتزايدة.