أسواق البالة: ملاذ العراقيين في مواجهة البرد وأزمة الدولار

فاطمة كريم- بغداد
مع أولى نسمات الشتاء الباردة التي تلفح شوارع بغداد، تزداد حركة الناس نحو أسواق البالة ببغداد في مشهد يعجّ بالحياة. الأزقة الضيقة مكتظة بالبائعين الذين ينادون بصوت عالٍ، “هنا المعاطف الأوروبية!”، “عروض خاصة على الأحذية الشتوية!”، وأصواتهم تتداخل مع ضجيج المارة.
حسين الذي يلقب بـ “أبو علي” يقصّ حكاية البالة في أحد الأزقة الشعبية في الكاظمية حيث يعلو صوت الباعة ويتداخل مع صيحات الزبائن. يدير هذا الرجل الخمسيني ذو الابتسامة الهادئة متجراً صغيراً لبيع ملابس البالة منذ أكثر من عقد. اليوم يشهد عدداً غير مسبوق من الزبائن، “الناس اليوم، وخاصة مع الأوضاع الاقتصادية، صاروا يعتبرون البالة ملاذاً يوفر لهم حاجاتهم بأسعار معقولة”.
تأثرت القدرة الشرائية للمواطنين في العراق بشكل كبير نتيجة أزمة ارتفاع الدولار مقابل الدينار العراقي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع. هذا التضخم دقع بالمستهلكين إلى البحث عن بدائل تلبي احتياجاتهم ضمن حدود ميزانياتهم، وكان من أبرز هذه البدائل التوجه نحو شراء ملابس البالة، التي تأتي بأسعار منخفضة نسبياً وجودة عالية، حتى إن بعضها يحمل علامات تجارية عالمية.
وتنتشر أسواق البالة في بغداد في مناطق الباب الشرقي، وباب المعظم، والميدان، والكاظمية، وسوق مريدي في مدينة الصدر، في أزقة ضيقة لا تتسع لمرور السيارات، وهي لا تقتصر على بيع الملابس فقط، بل تشمل الأحذية، والحقائب، وحتى الأدوات المنزلية وغيرها من البضائع.
يوضح أبو علي أن البالة أصبحت تجارةً مربحةً لكثير من العاملين فيها خاصة في الشتاء حيث يلجأ كثير من العراقيين لارتياد هذه الأسواق بحثاً عن المعاطف الثقيلة طلباً للدفء. ويقدّم أبو علي أجود أنواع الملابس ذات المنشأ العالمي، يقول: “توجد هنا قطع ملابس ماركات ذات شعبية واسعة، والجميل في ملابس البالة أنها توجد كقطعة واحدة فقط لك، لا تشبه غيرها ولا يمكن أن تجد شخصاً آخر يرتديها”.
يسعى أبو علي إلى توفير البضائع بأسعار مناسبة، مقدّراً الوضع الاقتصادي للبلاد وحاجة الناس موضحاً أن الأسعار لديه تبدأ من خمسة آلاف إلى ما يقارب الخمسة وعشرين ألف دينار عراقي، “هذا المبلغ يعتبر مناسباً جداً لجميع طبقات المجتمع”.
رغم تعب السنين الذي يُرى في تجاعيد وجهه، تفيض بسطة أبو علي بأكوام من الملابس بعضها معلقة بعناية تتمايل مع نسمات الهواء، وبصوت عالٍ ينادي على المارة: “تعالوا.. تعالوا، ملابس نظيفة وبسعر زهيد، الكل يلقى طلبه عندي”، فيجذبهم بابتسامة ودودة ونبرة ملؤها الحماس.
عندما يتقدم زبون يسأل عن قطعة ما، يُخرجها العم أبو علي برفق من الكومة، ويبدأ في شرح تفاصيلها كأنه يحكي قصة. يمد يده مشيراً إلى قماشها المتين ويخبر الزبون بنبرة خافتة كأنها سرٌّ: “هذه أصليّة، كانت بيد عائلة ميسورة، لكن الظروف تغيّرت.. مثل ظروفنا كلنا”.
الأطفال يحبونه، يمازحهم بمرح، ويقدم لهم قطعاً صغيرة كهدية أحياناً. وحتى إذا أتى شخص لا يملك المال الكافي، يتفاهم معه بقلب كبير وكأن بضاعته ليست مجرد ملابس بل أمل يجمع بين حاجات الناس وأحلامهم البسيطة.
هنا تقف أم محمد، 37 عاماً، وابنتها سهير تتجولان في أسواق البالة بمنطقة الكاظمية ببغداد، تتأملان أكوام الملابس المصفوفة بعناية. تبحثان بحماس بين القطع المختلفة، أملاً في العثور على ما يناسب حاجتهما ويليق بميزانيتهما. تقول أم محمد: “ارتفاع أسعار الملابس بشكل كبير جداً تزامناً مع أزمة الدولار في البلد اضطرّنا للجوء إلى ملابس البالة التي تكون أسعارها مناسبة لدخل الفرد”. وتتابع حديثها: “مشترياتنا لا تعتمد على الملابس فقط، ففي البالة يوجد كل شيء نحتاجه من أدوات المطبخ وأثاث المنزل وغيرها”.
يجلس العم أبو علي خلف بسطته الصغيرة،تجذب بضاعته انتباه السيدة أم محمد، فتنتقي بيدها قميصاً متواضعاً لكنها تتفحصه وكأنها تقيم كنزاً. تنظر إلى العم أبو علي، وتقول: “الله يرزقك يا عم أبو علي، من غير البالة ما كنا نستطيع الشراء. انظر كيف الأسعار ارتفعت بسبب الدولار، كأنه الكل صار يبيع ذهب”. يرفع العم أبو علي نظره نحوها، ويجيبها: “يا بنتي، كلنا في الوضع ذاته، الدولار جنّن الأسعار، الناس تجي هنا يدورون على أشياء نظيفة ورخيصة. ربنا يعين الجميع”. هذا المشهد يُظهر كيف تحولت أسواق البالة إلى مكان يجد فيه الناس بديلاً عن الأسعار المرتفعة.
على بعد خطوات قليلة من بسطة العم أبو علي، يجلس حسام بجانب بسطته الكبيرة الممتلئة بأدوات الطبخ والأثاث المنزلي المستعمل. تتوزع الأواني والسكاكين والصحون والكراسي الخشبية بترتيب منظّم بينما ينادي حسام على المارة بأسلوب محبب ليجذبهم للشراء.
حسام كامل، شاب في التاسعة والعشرين من عمره يعمل في محل والده. يقول “بعد أن تخرجت من الجامعة واجهت صعوبة في الحصول على عمل، لكن قررت أن أفتتح محل بالة. هذه البضائع مرغوبة جداً في هذا الوقت بسبب ما تمر به البلاد من مشاكل اقتصادية، ونحن هنا نلبي حاجة الناس بما يناسبهم”.
تمكن حسام من استخدام منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق نجاح ملحوظ في تسويق بضائعه في بغداد والمناطق المحيطة ونجح في الوصول إلى فئات متنوعة من الجمهور، خاصةً أولئك الذين يبحثون عن منتجات بأسعار تتناسب مع ميزانياتهم المحدودة.
من خلال إنشاء حسابات على فيسبوك وإنستغرام، بدأ حسام في نشر صور جذابة لمنتجاته مع تقديم عروض خاصة ومتابعة تفاعلات العملاء، مما ساعده في بناء قاعدة جماهيرية. واستطاع أن يظهر لزبائنه المستهدفين منتجاته المتنوعة، من أدوات منزلية بسيطة إلى مستلزمات منزلية أكثر تخصصاً، مع تسليط الضوء على أسعار تنافسية وجودة معقولة.
بالنسبة لحسام فإن ملابس البالة أصبحت أكثر من مجرد خيار، بل ملاذاً للناس في مواجهة الأوضاع الاقتصادية. فقد جعل ارتفاع أسعار الدولار من تلك الملابس حلاً شعبياً يخفف الأعباء ويمكّن مختلف طبقات المجتمع من التكيف مع المتغيرات. إنها ليست مجرد أقمشة مستعملة، بل تجسيد لروح المثابرة والتكيف في مجتمع يبحث دائماً عن السبل التي تحافظ على كرامته وتؤمن له احتياجاته.