زي التخرج.. ذاكرة أجيال واحتفال عائلي لا يُنسى
فاطمة كريم – بغداد
في زاوية محله الصغير الذي تفوح منه رائحة القماش الجديد والذكريات القديمة، يجلس صباح على كرسيه الخشبي المتآكل، منحنياً فوق ماكينة خياطة تجاوز عمرها الستين عاماً. يداه، اللتان حفر الزمن عليهما خطوطه، تعملان برشاقة غريبة وكأنهما تحفظان حركة الإبرة. بصبر ودقة، يمرر القماش الأسود تحت الإبرة، محوّلًا خيوطه إلى عباءة تخرج تحمل في طياتها أحلام الشباب وآمال المستقبل.
صباح فراس، الملقب بـ”أبو فراس”، يبلغ من العمر 70 عامًا ويعمل في محل خياطة يقع في منطقة باب المعظم ببغداد. افتتح هذا المحل والده عام 1949، وورثه عنه منذ حوالي 50 عامًا ليبقى محافظًا على مهنته إلى يومنا هذا. يقول أبو فراس: “كان والدي خياطًا للبدلات العسكرية، لكن مع دخول المستورد إلى الأسواق وتغيّر نمط الحياة، انتقلنا إلى خياطة أزياء التخرج”.
مع اقتراب نهاية كل عام دراسي، يبدأ التحضير لحفلات التخرج في معظم جامعات العالم، ومن أهم الاستعدادات ارتداء زي التخرج. يستعد الخريجون لاستلام شهاداتهم في حفل رسمي تنظّمه الجامعة، حيث يرتدي الطلبة والأساتذة “روب التخرج”، وهو عباءة سوداء مع قبعة مربعة الشكل بالإضافة إلى وشاح يوضع على الكتف، يُكتب عليه اسم وتخصص الخريج.
تعود قصة لباس التخرج إلى العصور الوسطى في أوروبا، حيث كان التدريس مرتبطاً بالكنائس والأديرة. كان رجال الدين والعلماء وطلابهم يرتدون أثواباً وغطاءً للرأس بحثًا عن الدفء، كما استُخدمت لاحقًا لتمييز طلاب العلم عن بقية المواطنين. ويشير المؤرخون إلى أنّ جامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج في بريطانيا كانتا أولى الجامعات التي خصصت ملابس للتخرج، حيث أصدرتا قرارًا في عام 1321 بمنع الملابس المتنوعة وفرض ارتداء أثواب طويلة أثناء الاحتفالات.
عند النظر إلى أصابع أبي فراس، تجدها ممتلئة بالغرز، كل غرزة تحمل حكاية طالب، وكل انحناءة نحو الماكينة تسرد فصولاً من رحلته الطويلة مع الخياطة. من البدلات العسكرية الصارمة إلى أزياء التخرج المفعمة بالفخر، وبرغم السنين التي أثقلت ظهره، يبقى تركيزه منصبًّا على طلبات زبائنه الذين يثقون بأنه سيصنع لهم زياً يليق بلحظة عمرهم.
يتحدث العم أبو فراس قائلاً: “اختلفت كثيرًا خياطة الماضي عن الحاضر. قديمًا لم يكن هناك تعقيد في الموديلات أو أنواع الأقمشة، فكان زي التخرج يتكوّن من قبعة مربعة وروب باللون الأسود مع شريط أصفر أو أخضر أو أحمر”. بابتسامة حنونة، يستذكر أيامه: “لم يكن الطلاب يشترون الزي، بل كانوا يستأجرونه بسعر رمزي ويعيدونه بعد انتهاء الحفل”.
ومع تسارع التطور، أصبح محل أبو فراس شاهدًا على تغييرات كثيرة. اختلفت الأقمشة وأنماط الخياطة، وبرزت أنواع متعددة مثل الخياطة “الأمريكية” و”الخليجية”، وتنوعت الأقمشة بين “الكوبرا” و”الباربي”. ويقول أبو فراس إن قماش “الباربي” هو الأكثر طلبًا بسبب لونه الأسود المميز وملمسه الناعم.
لم تكن التغييرات مقتصرة على الأزياء فحسب، بل امتدت إلى سوق باب المعظم الذي أصبح مركزاً متخصصاً. يجاور محل أبي فراس اليوم محلات أخرى تبيع القماش أو تقوم بالطباعة والكيّ.
في المحل المقابل، يعمل كاظم الشمري، الملقب بـ”أبو كمال”، البالغ من العمر 63 عامًا. يقول: “كنت أعمل في مهن حرة كثيرة، لكنني افتتحت محلي هنا منذ أكثر من 15 عامًا. أبيع مستلزمات الطلاب وأزياء التخرج الجاهزة وأتولى كيّها، فأنا لست خياطًا”.
الضحكات والنقاشات بين أبي فراس وأبي كمال تملأ الزقاق، حيث تربطهما صداقة عمرها سنوات طويلة. ترى أبا فراس منهمكاً في خياطة قطعة قماش، يمازح أبا كمال قائلاً: “أبو كمال، لا تنسَ كيّ البدلة، زبوننا لا يحب الملابس المجعدة!”. يرد أبو كمال مبتسماً: “أنا أفضل من يكوي الملابس في السوق!”.
بالنسبة للعائلات العراقية، يشكّل زي التخرج رمزًا للنجاح وتحقيق الأحلام. تقول أم إيمان، والدة إحدى الخريجات: “عندما رأيت ابنتي ترتدي زي التخرج، شعرت بالفخر وكأنها تفتح صفحة جديدة في حياتها”. وها هي تعود اليوم للسوق لتشتري الزي لابنتها الأخرى، وهي تشعر بفرحة كبيرة: “مرّ الوقت بسرعة. بالأمس كنت أشتري لهم مستلزمات المدرسة، واليوم أجهّزهم لحفلات التخرج”.
يعمل كل من أبي كمال وأبي فراس بجد وتفانٍ ليكملا الطلبات بدقة عالية، وكأنهما فريق واحد. يقول محمد فلاح، طالب على أبواب التخرج: “أتيت إلى هنا بنفسي لاختيار زي التخرج. سمعت كثيرًا عن سوق باب المعظم وثقتي كبيرة بأبي فراس”.
رغم اختلاف تخصصهما، يعمل أبو فراس وأبو كمال بتعاون يعكس روح الزقاق القديم، حيث لا تنافس بل تكافل، وتبقى صداقتهما رمزاً لدفء العلاقات الإنسانية.