بين رماد النفايات وأوجاع السكان.. مكبات بغداد العشوائية تهدد الصحة والبيئة

فاطمة كريم – بغداد
من داخل منزل صغير في حي مكتظ بالقرب من مكب نفايات عشوائي، يتردد صوت سعال مصطفى، كأنه إنذار يعلن عن معاناة متجددة. يبدأ السعال خفيفاً، يتخلله صوت صفير واضح مع كل محاولة شاقة للتنفس، لكن سرعان ما يتحول إلى نوبات متلاحقة، قوية، وكأن صدره الصغير يحاول طرد الهواء الملوث الذي يملأ رئتيه.
على مدار العقود الماضية، تحولت النفايات في بغداد إلى مشكلة بيئية وصحية متفاقمة بسبب التوسع السكاني العشوائي، وضعف البنية التحتية، وانعدام التخطيط الفعّال لإدارة المخلفات، أما اليوم فتبدو أكوام النفايات جزءاً من المشهد اليومي منتشرة في الأزقة والشوارع وحتى بجوار المناطق السكنية.
تكشف بيانات الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2021، أن عدد مواقع الطمر الصحي في العراق بلغت 221 موقعاً عدا إقليم كردستان، وأن من بين هذه المواقع 149 موقعاً غير حاصل على الموافقة البيئية ومخالف للضوابط.
مصطفى قاسم، الطفل ذو التاسعة من عمره، يعاني من تحسس شديد في صدره. “أمي، لا أستطيع التنفس”، يقول مصطفى بصوت متقطع، بينما يلتف حوله أفراد عائلته. تحاول والدته فتح النوافذ على أمل أن يدخل نسيم يخفف من اختناقه، لكن الهواء المشبع برائحة حرق النفايات يزيد الوضع سوءاً.
والدة مصطفى تسكن مع عائلتها المكونة من سبعة أفراد قرب منطقة معسكر الرشيد، الذي يبعد عن منزلها ما يقارب ثلاثة كيلومترات. وهو يُعد واحداً من أكبر مكبات النفايات العشوائية في بغداد وغير مرخص قانونياً. تقول أم مصطفى: “نحن نسكن هنا منذ ما يقارب 15 سنة. مع مرور كل سنة، تتفاقم الأوضاع سوءاً وتزداد كمية النفايات والملوثات نتيجة الحرق المستمر لها”.
معسكر الرشيد كان واحداً من أبرز المواقع العسكرية سابقاً، إذ كان قاعدة للجنود البريطانيين عند دخولهم العراق، لكنه تعرض للقصف والتدمير، فأُهمل من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة وظلت مساحته الشاسعة متروكة. مما دفع مئات العوائل إلى السكن فيه بشكل عشوائي، لاسيما أنه قريب من موقع المكب العشوائي.
على أريكة صغيرة في منزلها المتهالك، تجلس السيدة وهي تحمل بيديها صوراً قديمة لطفلها. تبتسم بصعوبة وهي تتذكر أياماً كان فيها مصطفى مليئاً بالحيوية. تقطع حديثها بين الحين والآخر بكلمات عالقة في حلقها، تحكي عن مأساة ابنها الذي أنهكته نوبات السعال وأورثته المرض.
“كل شيء بدأ تدريجياً”، تقول وهي تمسح دموعها: “بدأ مصطفى يشكو من ضيق في التنفس. في البداية، ظننا أنه برد عادي أو حساسية بسيطة. لكن السعال لم يتوقف، واستمر أسابيع وشهوراً. صوته كان يزداد ضعفاً يوماً بعد يوم”.
لكن، من يشعل الحرائق في هذا المكب وغيره في بغداد؟
تتم عمليات الحرق في معسكر الرشيد وجميع المكبات المنتشرة في بغداد وباقي المحافظات من قبل مجاميع تُسمى “النباشة”، إذ يحاولون استخراج معادن الألمنيوم والنحاس من الأسلاك وبعض القطع الأخرى ليستفيدوا من بيعها بأثمان بخسة لقوتهم اليومي.
وينقل عشرات الأهالي أطفالهم إلى المستشفى بعد كل عملية إحراق للنفايات. تتسبب عملية الإحراق باختناق عشرات الأشخاص وهي تتكرر بمعدل مرة في الأسبوع.
تقول والدة مصطفى “أخذناه إلى أكثر من طبيب. في البداية، وصفوا أدوية للسعال، وقالوا إنها حالة مؤقتة. لكن حالته كانت تزداد سوءاً. كلما استنشق الدخان الذي يتصاعد من مكب النفايات القريب، كان يعاني من نوبات اختناق حادة”.
بعد زيارة متكررة إلى طبيب متخصص في أمراض الجهاز التنفسي، تلقت العائلة التشخيص “قال لنا الطبيب: مصطفى يعاني من حساسية شديدة في الجهاز التنفسي بسبب استنشاق الهواء الملوث بالدخان والغازات السامة. إذا استمر في العيش قرب هذه المكبات، قد تتطور حالته إلى ربو مزمن”.
يشرح الخبير البيئي في إدارة النفايات، حيدر رشاد، أن بغداد تعاني من انتشار مواقع الطمر غير المرخصة، والتي تشكل تهديداً بيئياً وصحياً كبيراً على سكان المدينة. وفقاً لتصريحات لجنة الخدمات والإعمار النيابية، فإن ما يقرب من 80% أو أكثر من مواقع طمر النفايات في العراق غير حاصلة على موافقات بيئية، مما يزيد من مخاطر التلوث وانتشار الأمراض.
يقول حيدر “من أكبر المكبات الموجودة في بغداد هو مكب معسكر الرشيد والرستمية، وكذلك تلك التي توجد على أطراف بغداد. أما المكبات الحاصلة على موافقة رسمية فهي تلك التي توجد في منطقة النباعي، التي تستوعب نحو 7000 طن يومياً، والنهروان التي تستوعب نحو 3000 طن يومياً من النفايات”. ويكمل “تنتج بغداد وحدها بحدود 20 ألف طن يومياً من النفايات، إذ تصل نسبة المواد العضوية إلى 50%، ونسبة البلاستيك تقريباََ بحدود 17%، ونسبة الورق بحدود 14%، والمعادن بحدود 7%، والباقي أقمشة وأخشاب”.
يقدر حيدر أن حجم النفايات اليومية يمكن أن يغطي مساحة تتراوح بين 45,000 و55,000 متر مربع بارتفاع متر واحد، وهذه المساحة تعادل تقريباً مساحة 8-10 ملاعب كرة قدم إذا وزعت بشكل مسطح في بغداد فقط. “هذا تقدير عام يعتمد على البيانات المتاحة، ويمكن أن يتغير بناءً على أسلوب التجميع والكثافة الفعلية للنفايات”.
وبحسب الجهاز المركزي العراقي للإحصاء، فإن حجم النفايات في العراق شهد زيادات متفاوتة في السنوات الأخيرة مع تباين في كميات النفايات الناتجة حسب الظروف الاقتصادية والكثافة السكانية ومستوى الخدمات البلدية. ففي عام 2018، تم جمع حوالي 18.1 مليون طن من النفايات. وعام 2019، انخفضت الكمية إلى 17.3 مليون طن بسبب تقليل كفاءة الخدمات البلدية. وعام 2020، ارتفع الإنتاج إلى 19.7 مليون طن نتيجة زيادة النشاط الاقتصادي. أما آخر إحصائية بينتها وزارة البيئة العراقية في عام 2023، فتشير إلى أن العراق يطرح سنوياً ما يصل إلى 40 مليون طن، وهو الأعلى بين دول العالم. ووفقاً لإحصائية الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2022، فإن 93.8% من النفايات يتم التخلص منها في مواقع غير حاصلة على موافقة بيئية.
كما أظهرت الإحصائيات أن هذه النفايات تمثل خطراً كبيراً على الأفراد بشكل مباشر، حيث تؤدي إلى تجمع الحشرات والقوارض والحيوانات السائبة، وتلوث الهواء نتيجة حرق النفايات أو تعفنها، مما يطلق غاز الميثان في الجو ويسبب تلوثاً هوائياً يؤدي إلى انتشار أمراض تنفسية مثل الحساسية والربو والأمراض الجلدية.
وبحسب وزارة الصحة العراقية، فإن الأمراض الصدرية منتشرة بشكل ملحوظ بين الأطفال في المنطقة المحيطة بمعسكر الرشيد بسبب رائحة حرق النفايات. وتشير الإحصائيات إلى وجود 287 مريض سرطان في هذه المنطقة وحدها، وفقاً لبيانات الوزارة. علماً أن تقريراً لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 2022 أشار إلى أن عدد المصابين بالسرطان في العراق بلغ 35 ألفاً، 57% منهم من النساء.
وأوضح أمير علي الحسون، مدير عام دائرة التوعية والإعلام البيئي في وزارة البيئة العراقية، أن “الحرق العشوائي للنفايات يمثل إحدى الممارسات الخاطئة الشائعة، التي تتسبب في أثر سلبي كبير على البيئة، وعادة ما يتم هذا الحرق بالقرب من المناطق السكنية”. وأضاف “بعض هذه النفايات تحتوي على مواد سامة ومسرطنة تلوث المحاصيل والمنتجات الغذائية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض الجلدية والتنفسية في تلك المناطق مقارنة بغيرها”.
رغم تعقيد المشكلة، اتخذت وزارة البيئة العراقية عدة خطوات لمعالجة أزمة النفايات والتلوث البيئي في البلاد، من بينها إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحماية وتحسين البيئة (2024-2030)، التي تهدف إلى وضع إطار شامل لحماية البيئة وتحسينها مع التركيز على إدارة النفايات والحد من التلوث. كما تم إغلاق 19 موقعاً للطمر الصحي وحرق النفايات غير الملتزمة بالتعليمات البيئية، بالإضافة إلى إغلاق معامل ومصانع أخرى تساهم في التلوث.
ويرى الحسون أن الحلول الممكنة لهذه المشكلة تشمل زيادة الوعي البيئي والتوعية المجتمعية حول المخاطر الصحية والبيئية الناتجة عن الحرق العشوائي للنفايات، وتعزيز نظام إدارة النفايات من خلال تطوير أنظمة متكاملة لجمعها وفرزها وإعادة تدويرها بدلاً من الطمر أو الحرق العشوائي. كما شدد على أهمية إقامة مصانع لإعادة تدوير النفايات التي يمكن استغلالها كمورد اقتصادي وتحويلها إلى مواد صديقة للبيئة، خاصة أن العراق يفتقر بشكل كبير إلى معامل التدوير.
من جانبه، يرى الخبير البيئي حيدر رشاد أن من بين أهم الحلول إنشاء محطات وسيطة لجمع النفايات التي تجمعها العجلات من المناطق السكنية، على أن تكون هذه المحطات مطابقة للشروط الصحية والبيئية. وأضاف: “العراق بحاجة ماسة إلى تبني سياسة إدارة نفايات صحيحة، لأن النفايات موارد مالية كبيرة جداً تساهم في تحسين الوضعين الاقتصادي والاجتماعي من خلال إعادة تدوير البلاستيك والورق والزجاج”.
يستيقظ مصطفى كل صباح على أصوات الشاحنات التي تلقي المزيد من النفايات في المكب المجاور، بدلاً من صوت المنبه الذي يوقظه للذهاب إلى المدرسة. يقول مصطفى بصوت حزين: “الرائحة الكريهة لا تفارقنا، حتى لو أغلقنا كل النوافذ. أما في فصل الصيف، فلا نستطيع تشغيل وسائل التبريد لأنها تنقل الروائح أيضاً”.
في المدرسة، يعاني مصطفى من صعوبة في التركيز بسبب الإرهاق الناتج عن نوباته الليلية، ما أثر على مستواه الدراسي، بحسب والدته، التي تضيف: “حاولنا الانتقال إلى منطقة أخرى، لكن الإيجارات مرتفعة جداً. نحن عالقون هنا، نشاهد صحة ابننا تتدهور يوماً بعد يوم”. ورغم كل شيء، يحمل مصطفى أملاً صغيراً في داخله ويقول: “أحلم أن أعيش في مكان لا توجد فيه هذه الروائح ولا هذا الدخان. أريد أن أتنفس هواءً نقياً مثل باقي الأطفال”.