البريد العراقي.. من صندوق الرسائل إلى بطاقة الدفع

بغداد- روان وصفي
في أحد شوارع حي الجهاد الجانبية، وبين المنازل المتراصة، يقع مكتب بريد حي الجهاد، الذي لا يلاحظه المارة إلا عند توقفهم لقراءة اللافتة الصغيرة المعلقة عليه، والتي تميزه عن باقي المنازل. ورغم بساطته، يعمل المكتب يومياً ويقدم خدماته للسكان.
هناء الزبيدي، التي تعمل في بريد حي الجهاد منذ ثلاث سنوات، بعد أن أمضت 15 عاماً في بريد الجادرية، تجلس في مكتبها منشغلة بترتيب أوراق وملفات. تقول بنبرة هادئة: “قد يظن البعض أن الكثير من مكاتب البريد قد أُغلقت، لكن على العكس، تعمل الوزارة على تأهيل وافتتاح فروع جديدة”.
تأسس البريد العراقي عام 1921، مع بدايات الدولة العراقية الحديثة، إلا أن جذوره تعود إلى فترة الحكم العثماني في عام 1868، مما يجعله من أقدم خدمات البريد في المنطقة. ورغم أن استخدام البريد لم يعد شائعاً بين المواطنين العاديين، إلا أنه لا يزال مهماً بالنسبة للشركات. إذ ترسل شركة البريد وتستقبل الرسائل والطرود من 192 دولة حول العالم، وتقدم خدمات متنوعة تشمل تسلم وتسليم الرسائل والطرود والمسجلات من خارج العراق وتوزيعها في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك محافظات إقليم كردستان. ويتوفر للبريد العراقي 70 مكتباً بريدياً، 12 منها مختصة بتسلم الطرود.
تقول هناء: “بعض الأيام لا تصلنا أي رسائل، وفي أيام أخرى قد نستلم خمس أو سبع رسائل. الأمر يختلف من مكان إلى آخر، فمثلاً بريد الجادرية يشهد إقبالاً أكبر بسبب كثرة الكنائس والسفارات، وكذلك بريد الانتصار في حي الإعلام. أما هنا في بريد حي الجهاد، فالإقبال محدود، حتى أننا لا نملك ساعي بريد”.
يأتي الناس لاستلام رسائلهم بأنفسهم بسبب غياب ساعي البريد. وتوضح هناء أن معظم المستخدمين هم الأطباء الذين يستأجرون صناديق بريدية مقابل 25 ألف دينار عراقي سنوياً، بينما تدفع الشركات العراقية 225 ألف دينار، وغير العراقية 350 ألف دينار. ويتم تجديد الاشتراك في بداية كل عام.
وتضيف هناء أن المجلات الدورية تصل عبر البريد وتترك في الصندوق لمدة شهر كامل، وإذا لم تُستلم خلال هذه المدة، يعيدها مكتب البريد إلى الجهة المرسلة.
في الماضي، كان البريد وسيلة التواصل الرئيسية داخل العراق وخارجه، حيث لم تكن هناك وسائل أخرى. وقد تنوعت استخداماته، وكان من بينها صفحة “عشاق المراسلة” في مجلة “ألف باء”، التي تضمنت أسماء وعناوين أشخاص يرغبون في التواصل. تقول هناء، بعد أن شردت قليلاً محاولة تذكر اسم المجلة: “كل شخص كان يكتب اسمه وعمره وعنوانه ورقمه البريدي، ومن يُعجب به يرسل له رسالة، وهكذا يبقون على تواصل”.
آراء الناس حول البريد اليوم متباينة. فالبعض يحنّ إلى تلك الأيام، بينما يرى آخرون أن الهواتف قد جعلت البريد شيئاً من الماضي. خليل أحمد، الذي كان يستخدم البريد في مراسلاته الشخصية مع أقاربه في الخارج، يقول بنبرة تبدو غير مبالية: “لست مشتاقاً للبريد ولن أشتاق له. لماذا أتحمل هذا العذاب الآن ولدينا هواتف تسهّل علينا كل شيء؟”.
ثم يسترسل بحديثه وعيناه دامعتان: “كان لي أخ في الأردن، وكنت أرسل له الرسائل عبر بريد حي العدل. وفي أحد الأيام، توفي عمنا، الذي كان كأب لنا، ولم تصل الرسالة إلى أخي إلا بعد شهرين”.
اعتدل في جلسته وأكمل: “عندما وقع أخي في مشكلة وكنا بحاجة إلى المال سريعاً، أرسلنا رسالة إلى خالي في مصر. انتظرنا 15 يوماً لتصل الرسالة، ومثلها ليرسل لنا المال. اضطررنا حينها لبيع كثير من أغراض منزلنا”.
على النقيض، ترى هدى جاسم أن رسائل البريد كانت تحمل مشاعر لا يمكن أن تُنقل عبر الهواتف. تقول بعبارات يملؤها الحنين: “كنت أتشوق للرسالة التي تصلني من زوجي في ليبيا بين الحين والآخر. صحيح أن الهاتف أسرع، لكن هل تحمل رسائله نفس المشاعر التي تحملها الرسائل الورقية؟”.
وتضيف متذكرة تلك الأيام: “كان لي صندوق بريدي في التسعينيات أذهب له كل عشرة أيام لأجد مجموعة من الرسائل من أصحابي وأقاربي. كنت أقرأ كل الرسائل بشغف لأعرف الأخبار ومن ستتزوج من صديقاتي ومن التي انتقلت من مدرستها لمدرسة أخرى”.
يرى عبد الجبار يوسف، مدير بريد الانتصار، أن البريد كان له طابع خاص رغم صعوبة الانتظار. يقول وهو يضحك بسخرية: “كان من تصله رسالة من الخارج يفرح كأنه تلقى وحياً من السماء”. ثم يستدرك بحزن: “رغم صعوبة الانتظار، إلا أنه كان يجعل الناس يشتاقون ويتطلعون لكلمات أحبابهم. الآن، ورغم سهولة التواصل، أصبحنا نمل منه وننقطع عن بعضنا لعدة أشهر”.
في الوقت الحالي، يحاول البريد العراقي مواكبة التطورات. ففي أيار 2024، أطلقت الشركة العامة للبريد والتوفير، بالتعاون مع الشركة العالمية للبطاقة الذكية “كي”، خدمة إصدار وشحن بطاقات الدفع الإلكتروني عبر مكاتبها المنتشرة في بغداد والمحافظات. وتهدف هذه الخدمة إلى تسهيل الإجراءات للمواطنين ودعم التحول الرقمي في العراق.
يشرح عبد الجبار: “البريد الآن يقدم خدمات مثل بطاقات الكي كارد والماستر كارد، وبطاقة التوفير التي أصبحت صغيرة الحجم وسهلة الحمل”. أشار بعد ذلك بيده على مجموعة من الصناديق الكبيرة منها والصغيرة وأكمل بنفس النبرة: “يصلنا في اليوم الواحد عشرات الطرود ومثلها رزم غالباً تكون من الصين. نقوم بالتواصل مع أصحابها عن طريق الرقم، وإذا كان لهم صندوق نتركها فيه لمدة شهر حتى يأتي ويتسلمها”.
وتابع بينما كان واقفاً أمام مجموعة مكاتب صغيرة يفصل بينها وبينه لوح زجاجي تحمل فوقها عبارة الصادر وأخرى الوارد، قائلاً: “نحن الآن نعمل على إحداث تعاون مع شركة استثمارية لفتح بطاقة التسوق التي تساعد المواطنين بتقليل الحاجة لحمل المال وتسجيل جميع المعاملات”.
أما هناء فتضيف أن التعاون بين البريد والشركات الاستثمارية كان له أثر إيجابي على عودة البريد إلى الحياة. تقول: “من خلال تعاون وزارة الاتصالات مع الشركة العالمية للبطاقة الذكية (كي كارد)، نعمل على تقديم عروض متنوعة للدفع الإلكتروني عبر المكاتب البريدية المنتشرة في بغداد والمحافظات، وهذه الخطوة من شأنها أن تنشط عمل البريد من جديد”.