حسام.. رجل الأمن الذي حوّل منزله إلى مدرسة لأطفال متلازمة داون

مهدي غريب – المنصة
على أطراف بغداد في منطقة النهروان التي تفتقر إلى العديد من الخدمات الأساسية يقع منزل بسيط يختلف عن غيره. هنا تتردد ضحكات الأطفال وتلمع عيونهم بالأمل بفضل رجل واحد قرر أن يصنع فرقاً رغم محدودية الإمكانيات، هو حسام، رجل الأمن الذي أصبح أباً ومعلماً لـ 38 طفلاً من ذوي متلازمة داون بعد أن تخلّت عنهم المؤسسات التعليمية الرسمية.
لم يكن حسام، البالغ من العمر 35 عاماً، يدرك أن تجربة أبوّته ستقوده إلى مشروع حياتي يغيّر واقع عشرات الأطفال. عند ولادة ابنه المصاب بمتلازمة داون، انتابه القلق من مستقبل غامض ينتظر طفله، كما هو حال العديد من الأهالي في مواقف مشابهة. لكنه لم يستسلم لهذا الخوف، وبدلاً من ذلك، قرر أن يخلق له عالماً يشعره فيه بأنه ليس وحيداً في هذه الرحلة.
“بدأت هذا العمل التطوعي منذ عام 2017، وأردت أن أوفّر بيئة حقيقية لابني ولكل الأطفال الذين يعانون من نفس الحالة. كنت أريد أن يشعروا بأنهم جزء من المجتمع، وليسوا مجرد هامش منسي”، يقول حسام.
مع مرور الوقت، لم يعد الأمر يقتصر على ابنه فقط. بدأ الأهالي يسمعون عن هذا الرجل الذي فتح بيته ليصبح مدرسة مصغّرة، وبدأ الأطفال يتوافدون واحداً تلو الآخر حتى أصبح العدد 38 طالباً وطالبة، جميعهم يعانون من متلازمة داون.
وفقاً لتقارير، يقدّر أن نحو 4.5% من سكان العراق، أي حوالي مليوني شخص، يعانون من إعاقات ذهنية، بما في ذلك متلازمة داون. ورغم هذا العدد الكبير، فإن الدعم الحكومي والمؤسساتي لهؤلاء الأفراد محدود للغاية.
تواجه الجمعيات والمراكز المعنية برعاية ذوي متلازمة داون تحديات كبيرة بسبب نقص التمويل والموارد، ما يؤدي إلى إغلاق بعضها أو تقليص خدماتها بشكل ملحوظ. وفي ظل هذا الواقع الصعب، تبرز أهمية مبادرات فردية مثل تلك التي يقودها حسام. فهذه المبادرة لا تقتصر على كونها عملاً تطوعياً، بل تمثل أملاً للعائلات التي تبحث عن فرصةٍ لتأهيل أطفالها من ذوي الاحتياجات الخاصة وتوفير الدعم اللازم لهم.
ورغم الجهود الكبيرة التي يبذلها، يواجه حسام تحديات عديدة، إذ يعمل بمفرده دون دعم من فريق متخصص، معتمدًا على إمكانيات متواضعة. خصص غرفة داخل منزله، جهزها بمقاعد بسيطة وسبورة وألعاب رياضية، ليخلق بيئة تعليمية وترفيهية تدعم النمو النفسي والجسدي للأطفال. وعلى الرغم من انشغاله بعمله في سلك القوات الأمنية العراقية، يعود إلى منزله ليتحول إلى معلم وصديق وأب لهؤلاء الأطفال، مانحاً إياهم الرعاية والدعم الذي يحتاجونه.
“أقضي معهم كل لحظة أكون فيها متفرغاً، لا أريدهم أن يشعروا بأنهم مختلفون أو غير مرغوب بهم، هم أطفال لهم حقوق، ولهم أحلام، وأنا أحاول أن أكون جزءاً من تحقيقها”، يضيف حسام، بينما يشير إلى لوحة رسمها أحد طلابه الصغار، يظهر فيها رجل مبتسم محاط بأطفال. صورة تبدو وكأنها رسمته هو، كما يراه هؤلاء الصغار.
يوضح حسام أن مدارس الدولة ترفض استقبال هؤلاء الأطفال بسبب نقص البرامج التعليمية المناسبة، ومراكز التأهيل شبه معدومة في المناطق النائية مثل النهروان، مما يجعل مبادرته الحل الوحيد لكثير من العائلات التي لا تعرف أين تتجه بأطفالها.
في مدرسته الصغيرة لا يعامل حسام الأطفال كـ”حالات خاصة”، بل كأطفال عاديين يستحقون نفس الحقوق والفرص. ويحرص على إشراكهم في أنشطة رياضية وفنية، ويشجعهم على التفاعل مع بعضهم البعض، ويعلّمهم المهارات الحياتية التي تساعدهم على الاستقلالية مستقبلاً.
“رسالتي إلى الجهات المختصة والمنظمات الإنسانية واضحة: هؤلاء الأطفال يستحقون الاهتمام. أنا لا أطلب شيئاً لنفسي، لكنني بحاجة إلى دعم ليبقى هذا المشروع مستمراً. أحتاج أدوات تعليمية، بيئة أكثر تجهيزاً، وربما متطوعين يساعدونني”، يناشد حسام بنبرة يملؤهما الرجاء.
بالإضافة إلى نقص الخدمات والرعاية الطبية، يواجه أطفال متلازمة داون في العراق تحدياً اجتماعياً لا يقل خطورة، يتمثل في الوصمة الاجتماعية والنظرة السلبية التي تحيط بهم. ولا يزال العديد من أفراد المجتمع ينظرون إليهم كأشخاص غير قادرين على التعلم أو العمل أو الاندماج في الحياة اليومية، ما يؤدي إلى تهميشهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية في التعليم والرعاية والمشاركة المجتمعية.
“للأسف، المجتمع لا يرحم.. أسمع تعليقات جارحة وأرى نظرات شفقة تجاه هؤلاء الأطفال، وكأنهم عبء بدلاً من أن يكونوا أفراداً فاعلين في المجتمع”، يقول حسام بحزن، مشيراً إلى أحد التحديات التي يواجهها يومياً.
ورغم أن القانون العراقي ينص على حق ذوي الاحتياجات الخاصة في التعليم فإن الواقع مختلف تماماً. فمعظم المدارس ترفض استقبال الأطفال المصابين بمتلازمة داون بحجة عدم توفر الكادر المؤهل للتعامل معهم، مما يجعل الأهالي أمام خيارين صعبين، إما إبقاء أطفالهم في المنزل دون تعليم أو البحث عن مراكز نادرة وغالباً مكلفة.
حسام يواجه هذه المشكلة مع العديد من الأهالي الذين يأتون إليه بعد أن رفضت المدارس استقبال أطفالهم: “مديرة إحدى المدارس قالت لأحد الأهالي بصراحة: ابنك لن يستفيد شيئاً عندنا، فماذا يفعل هذا الأب؟ إلى أين يذهب بطفله؟”
ويشكو كثير من الأهالي من تعرض أطفالهم لنظرات الاستغراب أو الشفقة في الأماكن العامة، وأحياناً حتى للتنمر والسخرية، حيث تلجأ بعض العائلات، بسبب الضغوط المجتمعية، إلى عزل أطفالها وعدم إشراكهم في الأنشطة المجتمعية خوفاً من الإحراج أو الأذى النفسي الذي قد يتعرضون له.
“عندما نصطحب الأطفال في رحلات خارجية أو نخرج بهم إلى الحدائق، نواجه نظرات غريبة، وكأن الناس يرون شيئاً غير مألوف”، يقول حسام مستنكراً، “وكأنهم لا يستحقون أن يكونوا بيننا”.
حتى بعد تجاوز مرحلة الطفولة، يظل التمييز قائماً في الحياة العملية. ففي العراق، لا توجد برامج تأهيل حقيقية لإدماج المصابين بمتلازمة داون في سوق العمل، مما يجعلهم في معظم الأحيان معزولين تماماً عن فرص التوظيف، حتى في الوظائف التي تناسب قدراتهم. حسام يؤكد أن الحل يبدأ منذ الصغر، “إذا لم نعطِهم فرصتهم الآن في التعلم والتأهيل، فلن يجدوا مكاناً لهم في المستقبل”.
وتتطلب مواجهة هذه التحديات تكاتف الجهود بين الحكومة والمجتمع المدني لزيادة الوعي وتقديم الدعم اللازم لأطفال متلازمة داون. وذلك من خلال توفير التمويل ودعم المراكز والجمعيات المتخصصة لضمان استمرارية خدماتها، فضلاً عن التوعية المجتمعية لتغيير النظرة السلبية وتعزيز قبول ودمج المصابين بمتلازمة داون في المجتمع، إلى جانب تطوير برامج تعليمية وتأهيلية متخصصة تلبي احتياجاتهم وتساعدهم على تحقيق إمكاناتهم. إذ من خلال هذه الجهود المشتركة، يمكن تحسين جودة الحياة لأطفال متلازمة داون في العراق وتمكينهم من المشاركة الفعّالة في المجتمع.
“علينا أن نمنح هؤلاء الأطفال فرصة عادلة، فهم لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى دعم حقيقي. المجتمع سيستفيد منهم إن تعلّم كيف يحتضنهم ويؤهلهم للحياة”، يقول حسام بإصرار.
رغم هذه العقبات، لم يفكر حسام يوماً في إغلاق مدرسته، فهو يرى أن تغيير النظرة المجتمعية يبدأ من تقديم نموذج ناجح يثبت أن أطفال متلازمة داون قادرون على التعلم، وأنهم يحتاجون فقط إلى بيئة داعمة تؤمن بقدراتهم.
ويؤكد حسام أن ما يقوم به ليس مجرد مشروع تعليمي، بل هو طوق نجاة لعشرات العائلات التي عانت من الشعور بالعجز واليأس في ظل الإهمال الحكومي والتنمر المجتمعي.